آخر خبر

الأب الروحي لنجيب محفوظ | صحيفة مكة


قادتني رحلة بحث بين رفوف مكتبتي العامرة بالخيرات إلى زيارة جديدة في عالم المفكر المصري الراحل سلامة موسى (1887: 1958)، وكتبه المتنوعة، التي أثرت في تكويني الثقافي والفكري. أذكر أن شغف القراءة المبكر دفعني لاقتناء مئات الكتب من مشروع (مكتبة الأسرة) العريق، والذي أنتجته هيئة الكتاب المصرية مطلع التسعينيات من القرن الماضي، وكان في طليعة إصدارته (سلسلة التنوير) واجتمع فيها ولأول مرة معا أعمال الرواد الكبار من مفكرينا: سلامة موسى وطه حسين والإمام محمد عبده وفرح أنطون وجمال الأفغاني وشبلي شميل والعقاد وتوفيق الحكيم، وكانت أسعار الكتب زهيدة، تناسب عشاق القراءة (الغلابة) في زماننا، حيث إنه لم يكن للقراءة سبيل، سوى الكتاب المطبوع.

وسلامة موسى من أهم المؤثرين في الفكر العربي والمصري في القرن العشرين، ويعده الكثيرون أول من دعا للاشتراكية في الوطن العربي، وقد أتاحت له إقامته في فرنسا (1906: 1909) التعرف على رموز الفكر والفلسفة في أوروبا، ثم انتقل إلى إنجلترا لدراسة القانون، وانضم إلى الجمعية الاشتراكية، وفيها تعرف على المفكر الكبير (جورج برنارد شو)، ولموسى أكثر من أربعين كتابا، من أهمها: أحاديث الشباب، وأحلام الفلاسفة، والاشتراكية، والمرأة ليست لعبة، وحرية الفكر، ومصر أصل الحضارة، ونظرية التطور وأصل الإنسان، وهؤلاء علَّموني، وقد أتاحت مؤسسة «هنداوي» بعضها الكترونيا في نسخة محدثة، يمكن لمن يرغب الاطلاع عليها وتحميلها مجانا.

وسلامة موسى هو الأب الروحي لنجيب محفوظ، بحسب وصف الزميل محمد شعير في أحد فصول كتابه المهم (أولاد حارتنا.. سيرة الرواية المحرمة)، والذي أكد فيه أن موسى كان أيضا القارئ الأول لأعمال محفوظ الأولى، مرشده أيضا لما ينبغي أن يقرأ.

ويذكر شعير أن ثلاثية محفوظ تكشف ذلك بجلاء، وأيضا حواراته المتناثرة: “وجهني سلامة موسى إلى أمرين مهمين هما العلم والاشتراكية ومنذ دخلا مخي لم يخرجا منه إلى الآن، كان أكبر مبشر في جيلنا بالعدالة الاجتماعية وبالعلم وبالرؤية العصرية، وبقدر تطرفه في الدعوة للعلم والصناعة وحرية المرأة، كان في الجانب السياسي معتدلا فلم يجنح إلى الديكتاتورية؛ لذلك أعتبره الأب الروحي للاشتراكية والديمقراطية”.

واحتفظ محفوظ بتلك الأفكار كما يؤكد صاحب كتاب (الرواية المحرمة)، موضحا أنه كان مشغولا بالفعل بدور العلم في حياة البشر وتقدمهم. حتى أنه قبل شهر على نشر (أولاد حارتنا) عام 1958م، سأله محرر من مجلة “الإذاعة والتليفزيون” عن حكمته التي التقطها من الحياة، فأجاب محفوظ على الفور: “العلم أساس الملك”.

ونترك أدب محفوظ، ونعود إلى رحلتي في إحياء العلاقة مع عالم الأستاذ سلامة موسى الغني بموضوعاته، وكان أول ما استوقفني هو كتاب (حياتنا بعد الخمسين)، الذي لم ألمحه أبدا في كل مراجعاتي السابقة لكتبه وعناوينها، ربما لأن العنوان صادف شيئا في نفسي، بعد أن تخطيت قبل أسابيع بوابة الخمسين من عمري، فاختطفني الكتاب ألتهم صفحاته، لعله يكون مرشدا في هذه المرحلة (المحيرة) من العمر.

يقول موسى في مقدمة كتابه: “هذه الفصول هي بحث للوسط المصري من ناحية ملاءمته للمسنين، كما هي إرشادات عملية للمسنين كي يجدوا لذة العيش والمنفعة الاجتماعية بعد الستين والسبعين. وهذا الكتاب هو محاولة أولى لموضع بكر لم يسبق أن بحثه مؤلف عربي”، ويكمل “الشيخوخة في مصر مشكلة اجتماعية تحتاج إلى حل، وذلك لأسباب كثيرة ليس أقلها ذلك المطبخ المصري الذي لا يزال يقدم لنا ألوانا من الطعام تثقلنا بالشحم فتعرقل نشاطنا وتعجل تهدمنا، ولكن هناك أسباب كثيرة أخرى نفسية وذهنية واجتماعية”.

ويناقش المفكر والفيلسوف والكاتب سلامة موسى في كتابه القديم (الصغير)، هذه الأسباب حول مسألة ما تزال بكرا رغم مضي أكثر من نصف قرن على تنبيهه لنا عنها بما يحتويه هذا الكتاب من أفكار ومقالات، حيث جاء بعض عناوينه كالتالي: الانتقال من الشباب إلى الشيخوخة، يجب ألا نستقيل من الحياة، الأوهام الشائعة عن الشيخوخة، النمو بعد الخمسين، المزاج النفسي في الشيخوخة، جريمة الجحود، هواية جديدة كل عام، الاعتدال لا الزهد، المرآة المصرية بعد الخمسين، الرياضة الضرورية، السند الديني.

جذبني هذا الكتاب من بين عناوين كثيرة هامة لمفكرنا الرائد، ربما لأنه أيضا نبهني لندرة في الكتابة عن هذه المرحلة السنية التي ما يزال المجتمع يتعامل معها بإهمال لا يليق بحجم عطاء كبار السن الذين وصلوا إلى خريف العمر، وخاصة في بلادنا العربية وهو أمر ألمسه وغيري في ظل غياب تام لثقافة التعامل مع مرحلة الشيخوخة، سواء على المستوى المجتمعي أو الشخصي.

لهذا أتمنى أن تؤسس مواقع الكترونية وتطبيقات متعددة لتلبية احتياجات هذه الفئة العمرية من خدمات لوجستية وصحية واقتصادية، وأن تخصص وسائل الإعلام بعض برامجها للاهتمام بكيفية التعامل مع كبار السن، فهم أولى الفئات المجتمعية بالرعاية.

ومسك الختام من كتاب “حياتنا بعد الخمسين”، لمؤلفه سلامة موسى، الذي يقول عن كتابه: “ليست غايتي من هذا الكتاب أن نزيد حياتنا سنين فقط بل أن نزيد سنينا حياة”.



مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى