قصة ملك إنجلترا هنري الثاني الذي هدد الفاتيكان باعتناق الإسلام
- وليد بدران
- بي بي سي
في القرن الثاني عشر، هدد ملك إنجلترا هنري الثاني الفاتيكان بالتخلي عن المسيحية واعتناق الإسلام، بسبب غضبه من توماس بيكيت رئيس أساقفة كانتربري وسعيه للضغط على البابا لإقالته وذلك بحسب كلوديا غولد التي كتبت عن هذا الأمر في مجلة بي بي سي هيستوري.
ففي ربيع عام 1168، كتب هنري الثاني، ملك إنجلترا، إلى البابا ألكسندر الثالث. وفي حين أن المراسلات بين الملك والبابا كانت مسألة طبيعية إلا أن هذه الرسالة تحديدا لم تكن طبيعية لأن هنري هدد فيها باعتناق الإسلام.
ولكن من هو هنري الثاني؟
تقول دائرة المعارف البريطانية إن هنري االثاني وُلد في 4 مارس/آذار من عام عام 1133 في لومان في شمال غرب فرنسا حاليا، وتوفي في 6 يوليو/ تموز من عام 1189 بالقرب من تورز، وقد حمل ألقاب دوق نورماندي (1150)، وكونت أنجو ( 1151)، ودوق آكيتاين (1152)، وملك إنجلترا ( 1154).
والده كان كونت أنجو ووالدته ماتيلدا، ابنة هنري الأول ملك إنجلترا. كان هنري قد نصب ماتيلدا خلفا له، لكن ابن عمها ستيفن استولى على العرش.
البدايات
بعد أن تلقى تعليما جيدا، أصبح هنري دوقا لنورماندي عام 1150، وكونت أنجو ومين وتورين عند وفاة والده جيفري بلانتاجنيت عام 1151.
وعلى الرغم من مطالبة والدته ماتيلدا، ابنة هنري الأول، بالعرش إلا أن ابن عمها الملك ستيفن رفض الإذعان.
وفي عام 1152، ضاعف هنري ثروته من خلال الزواج من إليانور الجميلة والموهوبة، التي كانت قد انفصلت عن الملك لويس السابع ملك فرنسا.
وقد قام هنري بغزو إنجلترا عام 1153 مطالبا بعرش والدته، فرضخ الملك ستيفن وقبله كمساعد ووريث. وعندما توفي ستيفن في العام التالي، نجح هنري، ودون معارضة، في تولي العرش، وبذلك أصبح حاكما للأراضي الممتدة من اسكتلندا إلى جبال البرانس .
وكان الملك الشاب صاحب بنية ممتلئة، بوجه منمش، وشعر أسود قصير، وعيون رمادية. لكن شخصيته استحوذت على الاهتمام وجذبت الرجال لخدمته.
فترة حكمه
يمكن النظر إلى فترة حكمه من ثلاثة جوانب.. الدفاع عن نفوذه وتوسيع نطاقه، والتورط في نزاعين طويلين وكارثيين، وإصلاحاته الإدارية والقضائية.
في بداية عهده، وجد هنري إنجلترا في حالة من الفوضى، وقد دمرت الحرب الأهلية وعنف كبار الإقطاعيين السلطة الملكية في البلاد.
وفي الأشهر الأولى من الحكم، قام الملك، بمساعدة مستشاره النشط والمتعدد المواهب توماس بيكيت، بضرب كبار الإقطاعيين المتمردين وقلاعهم، وبدأ في إعادة النظام إلى البلاد.
لكن بعد بضع سنوات، دخل في صراع مع بيكيت عقب توليه منصب كبير الأساقفة، وكان الخلاف حول الحق المزعوم لرجال الدين في أن يحاكموا في حالة ارتكابهم لجرائم من قبل محكمة كنسية.
لقد اندلع الخلاف مع بيكيت، مستشار هنري الموثوق به والناجح في الفترة بين عامي 1154و1162، بعد فترة وجيزة من انتخاب بيكيت رئيسا لأساقفة كانتربري في مايو/آيار من عام 1162. وقد أسفر الخلاف عن قطع العلاقات تماما بينهما، كما أدى إلى توتر في علاقات هنري مع كل من ملك فرنسا لويس السابع الداعم لبيكيت، وبابا الفاتيكان ألكسندر الثالث.
كان هنري غاضبا عندما اكتشف أنه نصب متعصبا دينيا ولاؤه الأول للكنيسة وليس للعرش. كما غضب أيضا عندما استقال بيكيت من منصب المستشار بعد انتخابه رئيسا للأساقفة.
وفي محاولة لدفع الفاتيكان لإقالة بيكيت من منصب رئيس أساقفة كانتربري، جاءت رسالة هنري الثاني في عام 1168 التي هدد فيها باعتناق الإسلام.
لكن هل كان هنري على دراية بالإسلام؟
كان هنري بالفعل على دراية بالإسلام، فقد درس أعمال بيتروس ألفونسي، طبيب جده هنري الأول، الذي كتب أقدم رواية موثوقة عن النبي محمد، وكذلك بطرس المبجل، الذي أمر بالترجمة الأولى للقرآن إلى اللاتينية.
إلى جانب الإسلام، كان هنري يتعلم اللغة العربية منذ سن مبكرة. لقد تلقى تعليما متميزا من علماء على دراية بالمعرفة “الجديدة” التي كانت تنبع من صقلية وإسبانيا والشرق الأوسط.
ولم تشهد أوروبا الغربية أبدا مثل تلك الفترة المثيرة من الناحية الفكرية مثل القرن الثاني عشر، وهي الفترة التي أُطلق عليها لاحقا نهضة القرن الثاني عشر، والتي غذتها إعادة اكتشاف المفكرين الكلاسيكيين لليونان وروما (خاصة روما بعد تحول قسطنطين للمسيحية)، والاتصال بالعالم العربي وتقاليده الفكرية الغنية في علوم الفلك والطب والموسيقى والهندسة المعمارية والرياضيات.
وقد استعان والدا هنري في تعليمه بأفضل المعلمين في أوروبا. وكان من بينهم العالم اللغوي الشهير أديلارد من باث، الذي كان له تأثير عميق على تعليم هنري. كان أديلارد قد سافر لمدة 7 سنوات إلى إيطاليا وصقلية وأنطاكية والساحل الجنوبي لما سيصبح فيما بعد تركيا، وكرس نفسه لـ “دراسات العرب”. وقد اشتهر بترجماته من العربية إلى اللاتينية، وإدخال الابتكارات العربية في الرياضيات إلى إنجلترا وفرنسا.
واستمر اهتمام هنري بالثقافة العربية حتى بعد جلوسه على العرش حيث رحب بالعلماء العرب في بلاطه. وقد أعجب بالفنون الإسلامية كثيرا لدرجة أنه عندما بنى قصرا لعشيقته روزاموند كليفورد في وودستوك، قام بتقليد قصور صقلية حيث احتوى القصر على النوافير والساحات. وقد تم تدمير القصر في وقت لاحق، ولكن أسلوبه الغني بالزخارف العربية كان فريدا في شمال أوروبا.
وهكذا، كان هنري يعرف الكثير عن الإسلام والثقافة العربية عندما أرسل رسالته تلك في ربيع عام 1168 للبابا.
لكن ما مدى جدية تلك الرسالة؟
كان لدى الملك الكثير من التقدير للإسلام والثقافة العربية. ولكن ما الذي دفع هنري للقيام بالتهديد في المقام الأول؟ يمكن العثور على الإجابة في رسالة هنري حيث أخبر البابا ألكسندر بابا الفاتيكان أنه “سيقبل قريبا طريق نور الدين (سلطان حلب) بسبب ما يعانيه من سيطرة توماس بيكيت على كاتدرائية كانتربري”.
لم يكن من غير المعتاد أن يوجه هنري التهديدات التي كانت أساسية لترسانته الملكية، ولكن هل كان هنري جادا؟ إنه لم يكن مجرد ملك إنجلترا، فقد كان أيضا دوق نورماندي وأكيتاين، وكونت مين وأنجو وتورين، ومالك مساحات شاسعة من فرنسا. كان أحد أقوى الرجال في العالم، حيث امتدت سطوته من الحدود الاسكتلندية إلى الشرق الأوسط حيث حكم أعمامه المملكة اللاتينية في القدس. بحسب مقال كلوديا غولد في مجلة بي بي سي هيستوري.
فمنذ عام 1097، كان الصليبيون الأوروبيون يقاتلون الجيوش الإسلامية في الشرق الأوسط ويتشبثون بإصرار بالأراضي التي استولوا عليها وهي مملكة القدس وإمارة أنطاكية ومقاطعات الرها وطرابلس، وكان يُنظر إلى المسلمين على أنهم أعداء العالم المسيحي.
ومن ثم لو كان هنري جادا في ذلك التهديد لكانت التداعيات في أوروبا في القرن الثاني عشر زلزالية.
لقد حدثت تحولات بين الإسلام والمسيحية خلال مئات السنين، لكن المتحولين لم يكونوا ملوكا أو ملكات. فما الذي كان سيحدث لو اعتنق هنري الثاني الإسلام؟
وفي الواقع لم يكن هنري الثاني يبدي اهتماما بالدين حيث انتقد المؤرخون افتقاره إلى التقوى، مدعين أنه كان يشعر بالملل في الكنيسة، فلا يجلس ساكنا.
لكن الحقيقة أنه أُعجب بالإسلام، فعلى عكس المسيحية، ليس فيه سلطة مركزية، ولا قوة فوق وطنية، حيث لا يوجد بابا مسلم يمنعه من إقالة رئيس أساقفته.
إذن من الواضح أن رغبته في أن يقيل الفاتيكان كبير الأساقفة بيكيت هي سبب ذلك التهديد.
كان هنري قد رفع توماس عاليا، وعينه في منصب المستشار بعد فترة وجيزة من جلوسه على العرش، وكان يُعتبر أقوى ثاني شخصية في البلاط بعد الملك.
وبعد وفاة ثيوبالد رئيس أساقفة كانتربري عام 1161، دفع الملك بيكيت المتردد إلى تولي المنصب المزدوج (المستشار الأسقف) على الرغم من تحذيرات والدة هنري الإمبراطورة ماتيلدا.
لقد تجاهل هنري كل الاعتراضات، ولم يلتفت إلى والدته ، بل وهدد رهبان كانتربري (الذين لم يرغبوا في أن يكون توماس رئيس أساقفتهم) بغضبه إذا لم ينتخبوا مرشحه.
كان شاغله الأساسي هو ضمان الخلافة من خلال تتويج ابنه الأكبر في حياته لتجنب إراقة الدماء لدى وفاته، كما حدث عند وفاة كل ملك باستثناء ستيفن منذ الفتح النورماندي.
وكان الحق في تتويج ملوك إنجلترا من اختصاص رؤساء أساقفة كانتربري، وتوقع هنري أن يوافق توماس بيكيت على رغبته.
لقد استمرت خلافاته مع بيكيت لسنوات طوال، وفشلت محاولة المصالحة بينهما، وعاقب بيكيت الكهنة الذين تعاونوا مع هنري. وعند سماعه ذلك، قال هنري الثاني: “ألن يخلصني أحد من هذا الكاهن الغريب؟”. وقد أخذ 4 فرسان كلماته حرفيا، وقتلوا بيكيت في كاتدرائية كانتربري في ديسمبر/ كانون الأول من عام 1170.
نزاعات أسرية
ظلت علاقته بزوجته إليانور، التي تكبره بـ 11 عاما، طيبة لفترة طويلة، وبين عامي 1153 و 1167 أنجبت له 8 أبناء.
من بين هؤلاء، عاش أربعة هم هنري، وجيفري، وريتشارد، وجون الذين تصاعدت خلافاتهم مع أبيهم بسبب تقسيمه مُلكه بينهم، مع الاحتفاظ بالسلطة الحقيقية لنفسه.
وقد دعمت زوجته إليانور موقف أبنائها، فيما اندلع في عام 1173 تمرد عام للبارونات في إنجلترا ونورماندي، بدعم من لويس السابع في فرنسا، وويليام الأول (الأسد) في اسكتلندا.
كانت هيبة هنري في حالة انحسار بعد مقتل بيكيت، لكنه حسم الأمور وانتصر في نورماندي وبريتاني وعبر إلى إنجلترا حيث استمر القتال لمدة عام.
بحلول يوليو/حزيران من عام 1174 كان قد نجح في قمع التمرد في إنجلترا، ثم قام بالعفو عن أبنائه، لكن إليانور ظلت محتجزة حتى وفاة زوجها.
واندلع تمرد ثان في عام 1181 بنزاع بين ابنيه هنري وريتشارد، ولكن هنري الشاب توفي عام 1183. وفي عام 1184 اندلع نزاع آخر بين نجليه ريتشارد وجون. وفي عام 1186 توفي نجله جيفري.
بعد وفاة جيفري هدأت الأمور لبعض الوقت، لكن محاولة الملك إيجاد ميراث لجون أدت إلى ظهور تحالف ضده جمع ابنه ريتشارد وفيليب أوغسطس، الذي خلف والده لويس السابع ملكا على فرنسا.
هُزم هنري وأُجبر على التنازل عن العرش، وقد عجلت الأخبار التي تفيد بأن جون أيضا قد انضم إلى أعدائه بموت الملك بالقرب من تورز في عام 1189.
إرث هنري الثاني
في فترة حكمه الطويلة البالغة 34 عاما، أمضى ما مجموعه 14 عاما فقط في إنجلترا لكنه حقق الكثير.
فنتيجة للخلافات مع بيكيت كانت المجموعة الشهيرة من المراسيم، دساتير كلارندون (1164)، التي أقرت بإعادة تأكيد حقوق أجداد الملك على الكنيسة في مسائل مثل تعيين الأساقفة، والحرمان الكنسي.
واستطاع هنري الثاني إقامة نظام إداري ناجح. وقد تم حجب هذا النجاح عن المعاصرين والمؤرخين اللاحقين بسبب تركيز الاهتمام في كثير من الأحيان على الأحداث السياسية والشخصية.
ولم يُسلط الضوء على إصلاحاته الإدارية حتى القرن التاسع عشر، عندما بدأت دراسة السجلات العامة.
ويُمكن رصد تلك الإصلاحات في كتابات فيتزنيل فيما يتعلق بتنظيم العمل في الخزانة، وكتابات رئيس القضاة، رانولف دي غلانفيل، بشأن قوانين إنجلترا.
لقد قام هنري الثاني بالكثير لتطوير مهنتين عظيمتين مما أدى إلى كثرة الخبراء في المالية والقانون، واستقر موقع المحكمة الدائمة في وستمنستر. علاوة على ذلك، ضمنت مراسيم هنري أن يصبح الجمع بين القاضي وهيئة المحلفين أمرا طبيعيا.
هنري الثامن
بعد مئات السنين على عصر هنري الثاني، انفصل سليله هنري الثامن بكنيسة إنجلترا عن الكنيسة الكاثوليكية.
كان هنري الثامن قد تحدى سلطة بابا الفاتيكان، وكانت البلاد تابعة له، كي ينهي زواجه من كاثرين الأرغونية التي أنجبت له ابنته ماري، ويتزوج من آن بولين على أمل أن تنجب له مولودا ذكرا يخلفه على العرش.
فما كان من البابا كليمنت السابع سوى توقيع قرار “الحرمان الكنسي” على ملك إنجلترا. وفي عام 1534 مرر البرلمان الإنجليزي قرارا يجعل الملك هنري الثامن على رأس كنيسة إنجلترا، فأمر الملك بمصادرة كل أملاك الأديرة والممتلكات الكاثوليكية، والتي كانت تبلغ خمس أراضي البلاد، وأعاد توزيعها على حاشيته.
وقد كان من توابع ذلك الانقسام، اندلاع حروب أهلية وإعدام ملك في نهاية المطاف هو تشارلز الأول في عام 1649.