العماريات بنات طارق | صحيفة مكة
أمام هذا الغبش المتكرر بإمعان، تذكرت ما تربى عليه جيلي من أفلام ومسلسلات وحتى اسكتشات فكاهية، عززت في دواخلنا قيم الأصالة والمروءة واحترام العادات والأعراف النبيلة، عبر شخوص أبطال تلك المسلسلات البدوية، ونجوم الشاشة الفضية، بمسلسلاتهم وأفلامهم العميقة في مضمونها ورسائلها، الرقيقة في عاطفتها الجياشة، والتي كان لها دور في سمو ذائقتنا، ونقاء سريرتنا، والمهم أنها قد كرست قيما في دواخلنا، كانت ولم تزل حاضرة في وجداننا وحياتنا، والذاكرة حبلى بأسماء العديد من تلك المسلسلات والأفلام التي لا يفي مقال بذكرها.
والسؤال: من المستفيد من تغييب ذلك عن أبنائنا؟ وما هوية من يقوم اليوم بإدارة ملف إنتاج البرامج التلفزيونية؟ أسئلة أضعها برسم التأمل والإجابة أمام وزير الإعلام الموقر.
في هذا السياق أشير إلى مبحث مهم كتبه أستاذ التاريخ الحديث بجامعة حائل الدكتور خليف الشمري بعنوان «الدور الحربي للمرأة البدوية في الجزيرة العربية في القرنين 19 والنصف الأول من القرن 20، العُطَفة والعمارية أنموذجا»، وفيه يشير إلى دور محوري للمرأة العربية في أشد الظروف قساوة وهي الحروب، بمشاركتها لقومها ببسالة حال حربهم لقبيلة أخرى.
على أن القيمة الأكبر في طبيعة هذه المشاركة لم تتوقف عند بسالة المرأة، وإنما تعدتها للمروءة العربية التي احترمت مشاركتها مع قومها، فلم يتم استهدافها، ولم يقم الخصم بأسرها وإهانتها والحط من كرامتها حال الانتصار على قبيلتها، بل تم الاحتفاظ بها كأيقونة مبجلة حتى عودتها لأهلها، وكم هو سلوك عظيم لا يعرفه شبابنا اليوم؟ وما أشد حاجتنا لتعميمه بين ثناياهم؟
يشير الدكتور الشمري إلى أن العُطَفة والعماريات هُنّ من عُرفن في الذاكرة العربية ببنات طارق اللاتي شاركن قبائلهن في الحروب محرضات للفرسان، ويذكر أن لها مواصفات وشروطا ليتم الموافقة على مشاركتها فرسان قبيلتها للمعركة، وأول تلك الشروط أن تكون ذات حسب ونسب، جميلة ولها شعر طويل، شجاعة ولديها جرأة كبيرة، وفطنة ذكية، عارفة برجال القبيلة وألقابهم التي ينتخون بها، بل ويمكن أن تكون عارفة بنخوة فرسان القبيلة الأخرى المحاربة، تجيد فن الحداء، وأخيرا أن تكون بكرا في الغالب لتحفز قومها أكثر، كما أنه دليل على ثقة قومها بمروءة العربي وأصالته، وابتعاده عن الوقوع في العيب، والعيب الأسود جملة وتفصيلا.
ومن الأدوار الاجتماعية للمرأة وفقا لبحث الدكتور الشمري قيامها بالوساطة وطلب وقف الحرب بين المعسكرين بشكل كريم، فيما يعرف بالمُغطيات، وهن بنات من علية القوم يتم إرسالهن لملاقاة القبيلة والجيش الآخر، يمتطين هوادج مزينة على جمال أصيلة، يسقن جمالهن يمينا وشمالا، لتعلم القوة الغازية أنهن المغطيات، وهن مرسلات طلبا للعفو والجنوح للسلم، وفي الغالب يوافق المهاجمون على طلبهن، وينسحبون تقديرا لهن، ومن ذلك ما حدث مع الملك عبدالعزيز حين واجه قوة الإخوان في الأرطاوية، حيث سامح وعفا. على أنه وفي حال عدم الرغبة في السلم والمسامحة، يعمد الجيش الغازي إلى أخذ طريق مغاير، حتى لا يقابل المغطيات ويخرم العرف الذي جرى عليه العرب.
ما أجمل وأعظم هذه العادات الأصيلة! وكم نحن بحاجة إلى أن تكون حاضرة في أذهاننا دفاعا عن قيم تاريخنا وحضارته! وتأكيدا لابتعاد سلفنا عن الصورة المتوحشة البربرية التي كانت ولا تزال سائدة في الذهن العسكري الغربي، الذي ليس لديه أي حرمة أو عرف وقيمة مجتمعية تضبط سلوكه الإنساني.
والسؤال: ألا تستحق هذه النماذج وتلك الصور العظيمة أن تكون حاضرة في مشهدنا الإعلامي؟ استفهام أضعه برسم الإجابة في أروقة وزارة الإعلام ووزارة الثقافة، وأملي أن يكون العام القادم غير، وأن يكون محتواه راقيا مهنيا متوافقا مع مستهدفات الرؤيا الطموحة بقيادة سمو الأمير محمد بن سلمان ولي العهد، رئيس مجلس الوزراء.
[email protected]