اشتباكات السودان: شهادات عن رحلة الهروب الصعبة من الخرطوم إلى القاهرة
- أميمة الشاذلي
- بي بي سي – القاهرة
في منتصف ليل الأربعاء، وفي منزل بإحدى المدن الجديدة في أطراف القاهرة، التقيتُ سيدة سودانية يبدو على وجهها الإرهاق الشديد، كانت قد وصلت صباحا من رحلة شاقة طويلة من أم درمان إلى القاهرة، استغرقت أربعة أيام لم تعرف فيها طعم الراحة.
رغم ترحابها بي، إلا أن الحزن كسا وجهها الذي كان يحمل ألف سؤال يفتش عن إجابة لها في وجه من حولها. لم تتمالك نفسها وهي تسألني في جدية عن جدوى لقائي بها، وإن كان ذلك سيغير شيئا من الواقع المرير الذي لا تزال تعيشه.
بدأت في سرد قصتها في تحفظ، رافضة أن يذكر اسمها بالكامل، معللة ذلك بأسباب مجتمعية.
لم يكن الذهاب إلى مصر في خطة “س. ر.” التي فوجئت باندلاع صراع مسلح بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني، نغص على السودانيين العشر الأواخر من شهر رمضان، التي تكتسب خصوصية لدى المسلمين.
تقول إنها تقطن في حي شهد اشتباكات بين المكونين العسكريين في السودان، وفي تلك اللحظات الحاسمة، وجدت نفسها مسؤولة عن سلامة أسرتها، في ظل غياب زوجها الذي يعمل في بلد عربي.
“لم يكن أمامي حل آخر، فقد تحطمت أعمدة الكهرباء نتيجة القصف، وكان تبادل إطلاق النار يحدث تحت باب منزلنا حرفيا، فكان لابد من المغادرة.”
وفي ثالث أيام عيد الفطر، خرجت من منزلها في أم درمان، حاملة طفلتها ذات الخمس سنوات، ومصطحبة معها طفليها الآخرين الذين لا يزيد عمر أكبرهما عن 13 عاما.
“أخبرت أبنائي أننا بصدد خوض رحلة إلى مصر.”
كان الأمر بالنسبة لأبنائها عطلة مثيرة. ولم تستطع أن تخبرهم بحقيقة الوضع في بلدهم، مفضلة أن تجنبهم التفكير في مستقبل مجهول، ما وضع عليها عبء التماسك وعدم التعبير عن مشاعرها.
رحلة بلا نهاية
اصطحبت “س. ر.” أمها المسنة وأسرة أخيها إلى المنطقة التي تنطلق منها الحافلات إلى الحدود المصرية.
في الجانب السوداني من المعبر، قضت ساعتين لإنهاء الإجراءات، تناولت خلالها وجبة طعام.
“كانت هناك مطاعم وأسرّة يمكن تأجيرها لنيل قسط من الراحة، لكنني لم أجد مثل هذه الخدمات في الجانب المصري من المعبر.”
لم أتمكن من معرفة الخدمات المقدمة على الجانبين على وجه الدقة، لكن فريق بي بي سي في أسوان نقل عن العابرين افتقاد الجانبين للخدمات الأساسية بشكل عام. وربما يكون الأمر أصعب على الجانب المصري نظرا للفترة الطويلة التي تستغرقها الإجراءات.
أعربت “س. ر” عن استيائها الشديد من عدم وجود مكان مخصص للجلوس أو مكان مظلل للراحة أو الانتظار.
“أمضينا المساء في المعبر، وحين طلعت شمس النهار، كنا نتتبع ظل الحافلات للوقوف فيه.”
وبعد انتهاء الإجراءات التي استغرقت 18 ساعة في الجانب المصري، وصلت إلى قرية كركر النوبية التابعة لأسوان، يوم الاثنين، وساعدها أصدقاؤها المصريون في حجز مكان مريح، حيث لم يكن هناك بد من قضاء الليلة هناك لنيل قسط من الراحة بعد كل هذا العناء، لاسيما في وجود الأطفال وكبار السن.
صباح يوم الثلاثاء، لم تتمكن “س. ر.” من إيجاد تذاكر طيران لها ولأسرتها إلى القاهرة حتى يوم الخميس، أما قطار النوم فقد نفدت تذاكره حتى يوم السبت.
اضطرت وأسرتها إلى استقلال حافلة من جديد، انطلقت في الخامسة والنصف عصر الثلاثاء، ووصلت القاهرة في الثامنة والنصف صباح اليوم التالي، الأربعاء، حيث التقيتها.
“لو استقر الوضع في السودان غدا، فسأعود غدا”.
استطردت “س. ر.” في تأثر وهي تغالب دموعها، وقالت: “بيتي وشغلي وحياتي بأكلمها هناك بكل تفاصيلها، لم أضع خطة بديلة بعد، لكن وجود أبنائي يحتم علي التفكير في مدى الأمان والاستقرار الذي سيحظون به وفي مدارسهم هناك”.
وختمت حديثها وهي تحاول التماسك قائلة: ” لا يمكنني أن أصف رحلتي هذه، لأنني لم أخرج منها بعد”.
“في بيتنا رصاص“
في رحلة بحثي عمن وصلوا حديثا من السودان، تواصلت مع سيدة سودانية تعيش في القاهرة، صادف أن زوجها كان قد وصل القاهرة لتوه من السودان.
خالد مبارك خضر (54 عاما) يعيش بين مصر والسودان، كان يخطط لقضاء العيد مع أسرته المستقرة في القاهرة، حين فوجئ باندلاع الصراع المسلح بين الجيش وقوات الدعم السريع.
“تناثر الرصاص في شرفة منزلي، وكنت أكاد أسير زاحفًا نحو الحمّام، تجنبا لإصابتي.”
حكى لي خالد أنه يسكن في الحي الذي يضم مقر إقامة قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو الشهير بحميدتي، والذي يمتلك فيه معسكرات جعلت المنطقة ساحة للقتال وتبادل إطلاق النار مع الجيش السوداني منذ اشتعال الأزمة الحالية.
يقول خالد إن نحو 60% من سكان المنطقة غادروا منازلهم، كلٌ إلى ملاذه الآمن، إن كان بالعودة إلى ولايته الأصلية أو بالفرار إلى الحدود المصرية الأقرب إلى الخرطوم.
هذا ما جعل مغادرة خالد حيه السكني أمرا حتميا، فاستغل فترة الهدنة التي كانت لمدة 24 ساعة، في التاسع عشر من أبريل/نيسان، وتحرك نحو منطقة رفاعة شرق ولاية الجزيرة، التي تتسم بهدوء نسبي، وقضى هناك يومي عيد الفطر.
لم يسلك خالد الطريق ذاته الذي سلكته “س. ر.”، فقد قرر أن يتحرك إلى مدني عاصمة ولاية الجزيرة، ثم إلى القضارف شرقي السودان للمغادرة بالطيران من خلال مطار بورتسودان.
“هناك، لم يسمح باستقلال الطائرات سوى للدبلوماسيين والعاملين في المنظمات من الدول الأجنبية، ورفضوا حتى السودانيين حملة الجوازات الأجنبية.”
قرر خالد تغيير مسار رحلته من الجو إلى البر، فاستقل حافلة من بورتسودان إلى دنقلة ثم إلى معبر أرقين.
ويؤكد خالد ما ذكرته “س. ر.” من تضاعف سعر تذاكر كل الخطوط، سواء المتوجهة إلى الولايات أو إلى الحدود المصرية، لكن الأسعار من بورتسودان، كانت أقل من ثمن تذاكر السفر من قندهار إلى معبر أرقين.
في المعبر، قضى خالد يومين كاملين لم يتناول خلالهما وجبة طعام، مكتفيا بالماء وبعض التسالي.
كان على خالد أن يختار بين الوقوف في طابور طويل للحصول على بعض الفلافل، أو الوقوف في طابور إنهاء إجراءات الخروج من الجانب السوداني من المعبر.
ويستطرد خالد بأنه لو اختار طابور الطعام، فهذا يعني تأخر دوره في طابور الإجراءات، الذي قضى فيه نحو 7 ساعات واقفا على قدميه، قبل أن ينتقل إلى المعبر المصري لينتظر في طابور جديد لنحو 6 ساعات أخرى.
ويرجع خالد تأخير الإجراءات إلى تكدس الحافلات وعدم انتظام الصفوف، الذي زاد من صعوبة الوضع على موظفي المعبر.
وفق خالد، كانت المساجد مريحة، لكن الحمامات الملحقة به شهدت تكدسا شديدا، في الوقت الذي كانت فيه حمامات صالة المعبر مغلقة.
لم يكن يخفف على خالد سوى المتطوعين الذي كانوا يوزعون الماء والبسكويت مجانا، كما أثنى على الهلال الأحمر المصري الذي اعتنى بالمرضى والنساء القادمين من السودان.
بعد مغادرة المعبر المصري، استقل خالد حافلة مصرية إلى قرية كركر النوبية في محافظة أسوان، ثم أكملت الحافلة طريقها إلى القاهرة.
يذكر أن بي بي سي نيوز عربي قد شهدت انخفاضا ملحوظا في وتيرة وصول الحافلات إلى محطة حافلات كركر، بعد أن كانت مرتفعة خلال الأيام الماضية.
وأرجع بعض العاملين بالمحطة هذا الأمر إلى اتخاذ العديد من العائدين من السودان قرارا بالسفر مباشرة إلى القاهرة أو بعض المدن المصرية الأخرى، ضغطا لنفقات السفر والإقامة التي ارتفعت بشكل كبير في أسوان.
“تركت ابني على الحدود“
التقيت أيضا بـ”م. أ.” وهي سيدة تبلغ 50 عاما، اختارت ألا تكشف عن اسمها أيضًا لأسباب اجتماعية تتعلق بعملها موظفة في الحكومة. وتقول إنها كانت تخطط بالفعل للقدوم إلى مصر مع العيد.
ومع اندلاع الأحداث في الخرطوم، بدأت رحلتها آخر يوم في شهر رمضان.
وتقول “م. أ.” إن الحافلات رغم توافرها في الأيام الأولى من العنف، إلا أنها واجهت استغلالا من المسؤولين عن الرحلات، حيث وصلت تذكرة الحافلة للفرد الواحد من 20 ألف جنيه سوداني (33 دولارا) إلى 75 ألف جنيه سوداني (125 دولار)، بل ووصل سعرها أحيانا إلى 130 ألفا (200 دولار).
وكان من المفترض أن تنطلق الحافلة ظهر آخر يوم في رمضان، لكنها بدأت رحلتها الفعلية في السادسة إلا ربع صباح يوم العيد، ويرجع ذلك إلى الخلاف بين المسؤولين عن حجز التذاكر، والمسؤول عن تأجير الحافلة الذي رغب في المزيد من المال نظير كل فرد، بما يناسب الزيادة في التذاكر.
قضت “م. أ.” نحو اثني عشر ساعة في إجراءات معبر أرقين، ورغم أن التأشيرات غير مطلوبة لعبور النساء من الجانب المصري للمعبر، إلا أنها فوجئت برفض عبور ابنها ذي الـ16 عاما.
“في السودان أخبروني بأن من هم أقل من 18 عاما لا يحتاجون إلى تأشيرة لدخول مصر، لكننا تفاجأنا برفض عبوره ورفض رجائنا بتسهيل عبوره معنا.”
كان على ابنها أن يذهب إلى القنصلية المصرية في وادي حلفا، التي تبعد عن معبر أرقين مسافة 8 ساعات، ولم يكن من السهل على أمه أن تتخذ قرارا باصطحاب ابنها مع إخوته إلى هناك، أو بتركه يغادر وحده، وكانت تتساءل إن كان عليها انتظاره في المعبر أم المغادرة إلى القاهرة.
في النهاية، لم تجد “م. أ.” بُدًّا من أن تترك ابنها يخوض رحلته في صحبة رجل آخر كان معها في الرحلة ذاتها، ليس بينهما سابق معرفة، لكنه كان بالنسبة لها صحبة آمنة لابنها، واصطحبت هي أسرة الرجل معها إلى العاصمة المصرية.
“كان على السلطات المصرية أن تتجاوز عن شرط التأشيرة، لاسيما إن كان فتى في السادسة عشرة من عمره مع أسرته.”
الأمر لم يتوقف عند ذهابه لاستصدار تأشيرة لدخول مصر، بل كان على ابنها أن ينتظر انتهاء عطلة العيد قبل أن يبدأ عمل الموظفين. وما زالت “م. أ.” في انتظار ابنها حتى لحظة كتابة التقرير رغم مرور 5 أيام.
“من المفترض في مثل هذا الظرف ألا يتوقف إصدار التأشيرات بسبب عطلة العيد.”
اشتكت “م. أ.” من الأمر ذاته الذي استاءت منه “س. ر.” فيما يتعلق بالخدمات طوال الرحلة التي استغرقت خلال أربعة أيام حتى وصولهم إلى أسوان، لم يتناول الناس خلالها سوى وجبة أو اثنتين.
“منذ دخول المعبر وحتى وصولنا إلى أسوان لم يتناول أحد أي طعام باستثناء البلح الذي كان يحمله البعض”.
من أسوان، استقلت “م. أ.” القطار إلى القاهرة، في رحلة استغرقت نحو 13 ساعة أخرى، حتى وصلت في أمان، لكنها لا تزال قلقة على أهلها ومعارفها في دارفور، حيث ينحدر أصلها.
“قتل الكثير ممن أعرفهم. أهلي يعيشون أجواء حرب، ولا سبيل لهم للوصول إلى تشاد، البلد الأقرب إلى دارفور، في ظل إغلاق الطرق.”
جهود المساعدة
في بيان الخميس 27 أبريل/ نيسان الجاري، أعلنت الخارجية المصرية عبور نحو 14 ألف مواطن سوداني إلى الأراضي المصرية.
وترفض مروة كامل الصحفية والباحثة في الشأن الإفريقي وصفهم باللاجئين، معربة عن اعتراضها على صعوبة الإجراءات في ظل الظرف الاستثنائي الذي يواجهه السودان.
ورغم الصعوبة في اتمام الإجراءات، ورغم التكدس الرهيب في أسوان، تقول مروة كامل إن هناك مبادرات شعبية من مواطنين مصريين ومرشدين سياحيين لتوفير سبل الراحة لمن عبروا الحدود بالفعل، بتوفير الحافلات والفنادق بأسعار معقولة.
وهناك أيضا سودانيون يعيشون في مصر، يعملون حاليا على تشكيل فريقين أحدهما في القاهرة لمساعدة المتدفقين من الجنوب، والآخر في أسوان مهمته التواصل مع رؤساء القبائل لاستضافة السودانيين مجانا.
وتلعب مروة دور الوسيط في مساعدة العالقين في السودان على الوصول إلى أقرب نقطة آمنة، أو إلى مجموعة على وشك النزوح إلى مكان أكثر أمانا، كما تلعب دور الوسيط أيضا بين طالبي الخدمات من العابرين وبين مقدمي هذه الخدمات في أقرب مكان لهم.
وتحولت صفحة مروة كامل على فيسبوك مؤخرا إلى ما يشبه البث الحي، حيث ترصد، من خلال علاقاتها، ما يحدث في السودان وعلى المعبر أولا بأول، واصفة ردود الفعل عليها بـ”المهولة”.
“انهال عليّ سيل من الرسائل ممن عرضوا المساعدة بالمال وبالوقت وبالجهد بكل الأشكال.”
وتفكر مروة في أن تطلق مبادرة من فريق عمل قوامه الأفراد من السودانيين والمصريين الذين عرضوا خدماتهم، تكون فيها الوسيط، بهدف مساعدة القادمين على تجاوز أزمتهم نفسيا وطبيا ومعيشيا، وكتبت خطة تدرس من خلالها توزيع الوافدين على مختلف المحافظات المصرية بدلا من تكدسهم في القاهرة، ما يخلق لهم فرص عمل متنوعة.
وتتوقع أن تكون الأفواج القادمة من السودانيين ممن هم أقل دخلا، مؤكدة من خلال تواصلها مع الكثير من السودانيين، أن معظم من عبروا حتى الآن هم من ذوي الدخل المتوسط أو فوق المتوسط، ممن يستطيعون دفع ثمن تذكرة السفر برًا أو جوا، وأن القادمين سيكونون في حاجة إلى دعم أكبر على الأصعدة كافة.