أخبار العالم

مسلسل “قيامة أرطغرل” .. “الدعاية الدينية” تصنع مجد الزعيم التركي



يُصاب أرطغرل بن سليمان شاه بالتسمّم على حدود بيزنطة، بينما هو يحتضرُ يدعو له ابن عربي في دمشق، يبكي ولي الله بحرقة أثناء الدعاء للفارس التركماني. يهدأ الفارس ويُشفى في الحلقة 22 من الموسم الثالث، تمت الاستجابة للدعاء. نهض الفارس المبارك ليقاتل الكفار. يُؤكد الولِي المأجور في المسلسل في كل جملة أن الزعيم في خدمة الله (قيامة أرطغرل، 500 حلقة أنتجت بين 2014-2019، كتابة وإنتاج محمد بوزداغ وإخراج متين جوناي). مسلسل حقق ملايير المشاهدات وما زالت “نتفليكس” و”يوتيوب” والقنوات التلفزينية تبثه، وهذا ما أبز قوة تركيا الفنية.

بما أن زمَنَ المشاهدة هو الآن فإن المتفرج يقرأ اللحظة الحالية أكثر مما يتحقق: هل فعلا قابل أرطغرل بن عربي وباركه؟

الفرجة الآنية تخدم الاقتصاد السياسي للفن

إن كل عمل فني عن التاريخ يقدم قراءة للراهن. حين عُرض مسلسل “قيامة أرطغرل” نُظم استفتاء في العالم العربي عن الزعيم النموذجي وفاز أردوغان. المهم هنا ليس مطابقة المسلسل للتاريخ بل تأثيره في إطار تفاعلات الدبلوماسية الناعمة. لقد بنت أمريكا صورتها عن نفسها مع فيلم “ميلاد أمة” 1915، وبنت روسيا صورتها الثورية ضد الفساد القيصري مع فيلم “المدرعة بوتمكين” 1925. ثم جاءت تشابهات القذافي مع فيلم “عمر المختار” وعبد الناصر مع “الناصر صلاح الدين”.

بفحص تفاعل الفن والسياسة والاقتصاد والرياضة… يظهر أثر المسلسل في الدبلوماسية الثقافية. هذه هي المواضيع التي ينبغي أن تتناولها مقررات الهندسة الثقافية في الجامعات.

يرصد المسلسل صعود نجم أرطغرل في سياق تاريخي عرف هروب التركمان من المغول ونزوحهم غربا في الأناضول خلال القرن الثالث عشر الميلادي. وكلما تزايد الترك ديموغرافيا أجبروا البيزنطيين على الانكماش. كان ذلك تتويجا لما سماه المؤرخ غيبون “إزاحة المسلمين لمركز الثقافة الأوروبية بعيدا عن البحر المتوسط باتجاه الشمال فبدأت الجرمانية تلعب دورها في التاريخ”. لدى إدوارد سعيد، الاستشراق. ص 98.

يقوم أرطغرل برحلة طويلة لتحقيق أهدافه، لتوحيد قبائل وتأسيس دولة. تقدم الحلقة 60 من الموسم الثالث نموذجا لصنع دولة من قبيلتين، جسمين وكينونتين تحاولان التحول إلى جسم واحد.

بني المسلسل الطويل على خطاطة ثلاثية واضحة:

أولا أمير حلب همّه الزواج، ثانيا فرسان الهيكل همهم القدس. ثالثا الزعيم أرطغرل هدفه وحدة الأمة الإسلامية ومقاومة من يريدون احتلال القدس. يجري إظهار تعاون الأمراء الخونة مع الغزاة لكي يصير صعود أرطغرل مطلبا شعبيا ودينيا.

يوحد موضوع الصراع -السعي إلى سيادة القبيلة- حلقات المسلسل. يتمّ السعي لهذا الهدف من طرق شتى… مهما مرت الحلقات وطالت فالمتفرج لا يتيه لأن لديه طيلة الطريق مؤشرات توجهه. إن هذا التركيز على خط سردي واضح يُسهّل الفهم.

يتحالف التاجر الفارسي والتاجر العربي مع الزعيم المغولي نويان الصيني لمحاربة أرطغرل التركماتي الإخواني الذي يناضل، بدعم بركة ابن عربي الذي زار قونيا، من أجل وحدة العالم الإسلامي.

يدعو الولي الصالح ليحقق الزعيم هدفه. يتكهن ابن عربي الحكيم بمجد أرطغرل وابنه عثمان بينما يظهر وجه أرطغرل في القمر ويتقدم موكبه مهاجرا في سبيل الغزو يرتل الشيخ الأكبر ابن عربي قوله تعالى “إنا فتحنا لك فتحا مبينا…”، في الحلقة 62 من الموسم الثالث يبني ابن عربي توازيا بين النبي وأرطغرل في الدقيقة 43.

يقرر أرطغرل أن يخرج مع فئة قليلة وهو واثق أن النصر معه. هكذا يجعل هجرة النبي نموذجا له. تغلب الفئة القليلة الفئة الكثيرة. المسألة نوعية لا كمية. حسب المؤرخ التركي يلماز أوتونا في كتابه الضخم “تاريخ الدولة العثمانية” فإن أرطغرل بك (1231-1281م) قد هاجر مسافة 900 كلم نحو الغرب (يلماز أوتونا، 1988، ص 87).

يتغنى الولي الصالح -في مدينة قونية عاصمة التصوف- بمملكة الله بينما يستخدم المُخرج برميل دم في كل حلقة. إن أفعال الأشرار أكثر إمتاعا للجمهور. وحين يصير الأفق أسود يخطب ابن عربي في مريديه ثم يقوم بالدعاء والدعاية للفارس المغوار. و”الدعاية هي مجموعة من الإجابات المتماسكة في عالم مُضطرب مُحير” تايلور فيليب، قصف العقول، ترجمة سامي خشبة سلسلة عالم المعرفة، عدد 256، أبريل 2000، ص 77.

يرى الولي رؤى عظيمة فتتحقق، هكذا بنت الدعاية الدينية في صناعة مجد الزعيم. يوصف أرطغرل بأنه “المُلخص”، ويعيش قيامته التي تحققت في الحلقة 25 من الموسم الثالث. هكذا تتمازج السردية المسيحية والإسلامية لمباركة خطواته. يحْضرُ الولي زواج الفارس ويباركه. تحبل زوجة أرطغرل فيسمي ابن عربي الطفل عثمان. هكذا يسمي الشيخ الأكبر إمبراطورية بكاملها قبل أن تولد.

بدءا من الحلقة 148 فقد السرد انسيابه وصار موجها مؤدلجا… صار المقاتلون في خدمة دولة تجريدية يطيعونها بشدة… تراجعت الدوافع البشرية… تخلى زعماء القبائل عن الثأر القبلي الذي يسري في دمهم ليوافقوا على الصلح… صار أرطغرل في الأناضول بمباركة شيوخ أجلاء حكماء أغنياء (أصحاب اللحى البيضاء) يمهدون له الطريق بسهولة… صار السرد مفتعلا… صارت أفعال أرطغرل مباركة ولم تعد أفعالا بشرية…

يمكن التعليق، بخفة وسهولة، عن المبالغات التاريخية عن البطل قائد الصحوة الإسلامية وعن جعل ابن عربي عرّافا يبشر بمجد العثمانيين، لكن الصعب هو كشف وتفسير مقادير الوصفة الفنية التي حققت نجاحا مهولا.

هل وقع تضخيم دور أرطغرل التاريخي؟

إن البحث عن المطابقة بين وقائع المسلسل ووقائع التاريخ -وهو أصل سرد- هي من مهام المؤرخ وليست من مهام الناقد الفني الذي يبحث مدى نجاح التخييل في السيناريو وفي تصويره. وقد كان التخييل في خدمة الدعاية الدينية التي تستغل صلوات ولسان الشيخ الأكبر، لتجعله بوقا.

في ختام الموسم الأول من مسلسل “بزوغ الإمبراطورية العثمانية” 2020 حقق محمد الفاتح رؤية الشيخ لعثمان بن أرطغرل وفتح القسطنطينية.

وفي مطلع الموسم الثاني من مسلسل “بزوغ الإمبراطورية العثمانية” 2022 تحول البوق إلى محنة حين رأى السلطان محمد الفاتح رداكولا في أحلامه، وحين قللت أمه من وزن الحلم أجابها “قال الصوفي إن أحلامي رؤى مستقبلية”…

هكذا صنعت “نتفليكس” للرؤى مسارا جديدا بخيال خصب يستقطب المشاهدين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى