أخبار العالم

حليمة الجندي تحذر من تداعيات تجاوز الذكاء الاصطناعي “خط اللاعودة”‎‎



قالت الكاتبة المغربية حليمة الجندي (نجلة الفنان الكبير الراحل محمد حسن الجندي) إن الذكاء الاصطناعي كالتلميذ النجيب الذي يتفوق على أستاذه، مضيفة أن نتائجه مفتوحة بالمعنى الحرفي للكلمة، بحيث يستحيل معها التنبؤ بما ستنتهي إليه الأحوال حين تنفلت بكرة الصوف، وقد بدأت في الانفلات بالفعل.

وأضافت، في مقال توصلت به هسبريس تحت عنوان “خط اللاعودة”، أن الاعتقاد السائد كان هو أن الذكاء الاصطناعي لا يمكن أن يكون بديلا للوظائف الإبداعية المرتبطة بالوجدان والوعي والتجربة الإنسانية، وأنه إن فعل فلن تغدو تلك الانتاجات إلا محاكاة محدودة مهما بلغ إتقانها.

وشددت المتحدثة ذاتها على أننا نشهد اليوم تسابقا محموما بين أباطرة الأنترنيت، مبرزة أن احتمالية تجاوز خط اللاعودة المتمثل في قدرة الذكاء الاصطناعي على تطوير نفسه ذاتيا، أصبح أبعد بمراحل عن الخيال وأقرب بمراحل إلى الحقيقة.

وهذا نص المقال:

لا شاغل لكل مهتم بمجالات التقنية والعلوم في أيامنا هاته إلا الحديث عن الذكاء الاصطناعي، وكيف أنه مغير العالم لا محالة.

على طرف وقف مبشرون بعهد من الفتوحات العلمية التي لن تزيد مكانة الإنسان في سيادته على العالم إلا رسوخا لتصل به إلى أجوبة ظلت إلى الآن مستعصية على الأفهام مهما نبغت في فروع المعارف؛ من الفلسفة وأسئلتها عن الوجود، إلى الفيزياء الكمية وتصوراتها عن طبيعة الكون ومآله. وعلى الطرف الآخر وقف من ينذر بنهاية الجنس البشري على “يدي” آلة اكتسبت وعيا/ روحا فاستقلت به عن صانعها وأرضخته.

هذه الفكرة رغم فظاعتها تبدو مألوفة لكثرة ما تناولتها أفلام الخيال العلمي والرعب لسنوات طويلة ومنذ ظهرت في أعمال روائية في القرن التاسع عشر تزامنا مع الثورة الصناعية التي خرجت بالعالم حينها أيضا من عهد ودخلت به إلى عهد آخر لا يشبه أي شيء قبله، متأثرة بكتابات تشارلز داروين عن أصل الأنواع التي أصدرها في منتصف القرن ذاته.

وإذا كان لنا في التاريخ المعاصر جدا من شاهد ومرشد، فنحن نعلم علم اليقين أن التقنية في منتصف العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين قد غيّرت العالم بحق و”حررت/انتزعت” السلطة على “الحقيقة/المعلومة” من قبضة المؤسسة ووضعتها في يد الفرد الذي أصبح لأول مرة في التاريخ ينتج ويؤثر ويقود، فأفرزت أنماطا في التفكير والممارسة غير مسبوقة، أشعلت “ثورات” وأسقطت قلاعا رمزية وفعلية، وأقامت قلاعا أخرى ولو من ورق وضحالة غيرت ملامح العالم، حتى أن مواليد هذا القرن المعروفين اصطلاحا بـ”الجيل زي” قد لا يستطيعون تصور عالمنا قبل منصات التواصل الاجتماعي وثورة الأنترنيت الثانية لأنه تغير بشكل ذري لا رجعة فيه.

قبيل تلك التحولات وخلالها كان المتخصصون منقسمين ما بين مبشر بعهد من الحكامة الشعبية التي لا تساوم على الحقوق والحريات، وتعد بدمقرطة حقيقية للمعلومة ثم للمعرفة اللتين هما تاريخيا في قبضة النخب، وبين طرف آخر متشائم يخشى فوضى ثقافية ساحقة قد تأتي على الأخضر واليابس. وهناك فرقة ثالثة، أنا منهم، كانت ترى أن الفريقين على صواب، وأننا مقبلون على نظام/لا نظام ثقافي جديد لا مفر فيه من السيناريوهين الأول والثاني معا بدرجات مختلفة تبعا لطبيعة المجتمع ونظامه السياسي وصلابة أو رخاوة بنيانه القيمي وقابلية منظوماته على احتواء الهبة ومتحوراتها.

إن الذكاء الاصطناعي وتهافت التهافت حوله خلال الفترة القصيرة الماضية ملتصق بهذا السياق الجديد؛ ولكنه كالتلميذ النجيب حين يتفوق على أستاذه، أعمق وأشمل من أن يخضع لشروطه أو يأخذ برخصه أو أن ينحصر في أي من سيناريوهاته الممكنة؛ لأن نتائجه مفتوحة بالمعنى الحرفي للكلمة، يستحيل معها التنبؤ بما ستنتهي إليه الأحوال حين تنفلت بكرة الصوف، وقد بدأت في الانفلات بالفعل.

خلال الأسبوع المنصرم، استطاع أحد تطبيقات الذكاء الاصطناعي أن ينجز صورة فوتوغرافية وأن ينافس ويتفوق بها على مصورين محترفين من بني البشر. خلاله أيضا أنتج تطبيق آخر قطعة موسيقية لمطرب “بوب” شهير حصدت ملايين المشاهدات قبل أن يتم حذفها لانتهاكها حقوق الملكية الفكرية في بريطانيا، وقام برنامج غيره بإنتاج أغنية لفرقة موسيقية تقاعد أفرادها، في محاكاة شبه كاملة لأسلوبها في الكتابة والتأليف الموسيقي خدعت حتى أصحابها. أحدث هذه الشطحات تمثل في لقاء افتراضي مع سائق السيارات طريح الفراش منذ سنوات مايكل شومخر، الذي قام الذكاء الاصطناعي بمحاكاة أجوبته في سابقة خطيرة أدت إلى إقالة رئيس تحرير المجلة المعنية بعد تهديد عائلة شومخر بمتابعة المؤسسة الإعلامية قانونيا.

منذ أشهر قليلة، كان الاعتقاد السائد هو أن الذكاء الاصطناعي لا يمكن أن يكون بديلا للوظائف الإبداعية المرتبطة بالوجدان والوعي والتجربة الإنسانية، وأنه إن فعل فلن تغدو تلك الإنتاجات إلا محاكاة محدودة مهما بلغ إتقانها: نسخة مقلدة وصورة عن أصل موجود، لا إبداعا من عدم. وحتى في هذا التصور مكامن خطر داهم، ومصدر إرباك عظيم، واختلاط حابل بنابل، فالمعرفة بزيف العملة لا يحيد أذاها، ينضاف إلى ذلك أن أبحاثا صادرة عن جامعات غربية عديدة تشير جميعها إلى “عنصرية” و”تمييز” و”تعصب” الذكاء الاصطناعي الذي يعتمد فيما ينتجه على لوغاريتمات متحيزة وبيانات يغلب عليها ما ينتشر في المجتمع الإنساني من مثالب. أي أنها على صورتنا نحن البشر، تقول ما نقول.

هذا كان نقاش الأمس، أما اليوم ونحن نشهد تسابقا محموما بين أباطرة الأنترنيت يذكرنا بتسابق آخر شبيه له قبل عقود وعقود قادته دول ولم يفضي إلى أي خير، وأما ونحن نرى تسارعا مفزعا يسابق الدقائق لا الأيام لتحسين وتجويد تطبيقات الذكاء الاصطناعي المتاحة للعموم (وتلك طامة أخرى) حتى يضمن “المنتصر” الغلبة في السوق، فإن احتمالية تجاوز خط اللاعودة المتمثل في قدرة الذكاء الاصطناعي على تطوير نفسه ذاتيا أصبح أبعد بمراحل عن الخيال وأقرب بمراحل إلى الحقيقة. بعض الخبراء يقول خلال عقود قليلة، وآخرون يجزمون أنه واقع بعد سنوات لا غير، فالشفرة قد فكت فعلا.

لا نملك لواقعنا تبديلا، فالعالم متغير لا محالة؛ ولكننا نستطيع أن نتريث قليلا: أن لا نتحمس بسذاجة الأطفال لبرامج ما زالت في طور التجريب وهي أبعد ما تكون عن التسلية واللهو. لا نستعجلن المجهول.

في انتظار ما سيكون، لنقرأ لكتاب عاشوا حقا، ولنستمع لموسيقى صنعها الإنسان، ولنعد استكشاف إنسانيتنا التي من أجلها استخلفنا على الأرض. لنستمتع بالعالم من حولنا بعيدا عن الشاشات، من يدري، قد نشتاق إليه ذات يوم.. قريب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى