بنعبد العالي يبدد الرؤى المثالية للترجمة.. تأويل وتفكير وأداة تواصل وصراع
على الرغم من أن الترجمة “أداة انفتاح وتواصل”، فإن المفكر عبد السلام بنعبد العالي ينبه إلى أنها أيضا “حلبة صراع بين اللغات”؛ فهي ليست “مجرد جسر”، بل تتضمن “علائق القوة، والانغلاق”، وهو ما لا يُنتبه إليه عند الغفلة عن “العلاقة المتوترة بين اللغات”، التي بينها “تدرج، وعدم تكافؤ لغوي وأدبي في الحقل العالمي”.
جاء هذا في محاضرة بعنوان “الترجمة والتأويل” نظمتها الهيئة الأكاديمية العليا للترجمة، مساء الثلاثاء، بمقر أكاديمية المملكة المغربية في العاصمة الرباط، وقال فيه أحد أعلام الدرس الفلسفي بالمغرب والكتابة الشذرية الفلسفية بالمنطقة العربية إن قياس الازدواجية اللغوية في الساحة المغاربية على الازدواجية اللغوية في الساحة الأوروبية غير سليم.
وأضاف شارحا: لا يُنتبه هنا إلى عدم تكافؤ اللغات، فلا يمكن قياس حالة صامويل بيكيت المتردد بين الإنجليزية والفرنسية بالجزائري بوجدرة أو المغربي عبد الله العروي، في انتقالهما بين العربية والفرنسية؛ لأن “العلاقة بين اللغتين ليست هي هي، فالإنجليزية والفرنسية تختزلان اليوم النبالة الأدبية”.
ثم فصّل: “الترجمة في الميدان الأدبي العلمي سلاح للمشروعية الأدبية؛ والترجمة هي التي تمكن من الحصول على النبالة الأدبية، فترجمة التشيكي كونديرا هي التي جعلته أديبا عالميا (…) وكتب في لوموند سنة 1993 أنه قرر ألا يعتبر الصيغة الفرنسية لأعماله ترجمة، بل نصه هو، ويمكن نقل نصوصه عن الفرنسية أو التشيكية، ولو فضل الفرنسية. وهنا يصبح حديث “الأصل” كلاما فارغا. وكذلك بورخيس كان اكتشافا فرنسيا، وكافكا، التشيكي المفترض”.
واستحضر بنعبد العالي في هذا الإطار عالم الاجتماع بيير بورديو وتلامذته وحديث “التبادل غير المتكافئ بين اللغات، في عالم شديد التدرج والاختلاف”، ووجود “شكل خاص من علاقات الهيمنة في الحقل الأدبي الدولي، وتكريس أسماء الكُتاب والإعلاء من النصوص؛ فـ فوكنر كتب 15 عاما بأمريكا، وأخذ جائزة نوبل للآداب بعد ترجمته للفرنسية؛ ولهذا علاقةٌ بقوة اللغة وغناها الأدبي (…) نبالتها الأدبية، ونفوذ نصوص مدونة بلغات بعينها، حيث نجد لغات تشتهر بأدبيات أكثر من غيرها، حتى تصير تلك اللغة نفسها شهادة أدبية، وتكون المشروعية عبر الترجمة إلى لغة المركز الأدبي، ولا يحوز شهادة العالمية إلى أن ينال الترجمة للغات المركز”.
وحول الترجمة في التجربة العربية، قال المتدخل إنه “على الرغم من كل ما عرفته حركتها عند قدمائنا ممارسة وتنظيرا، فإنه كان ينظر إليها كعملية من طرف واحد، ولم يكن الناطقون بالعربية يرون أن ديوانهم المميز والمميز، الشعر، يجوز نقله؛ إلا أنهم لم يكونوا مثل الإغريق الذين لم يطوروا أي نظرية للترجمة”، نظرا لافتخارهم بأحاديتهم اللغوية، وعدم اعترافهم لغيرهم بـ”القدرة على الكلام المعقول”، ولذا سمو آخرهم “برابرة (…) يتلعثمون بكلام لا يُفهم”.
وزاد: “الآن صرنا نكتب لنترجم، بل إن منا من يكتب بغير العربية ليعمل نفسه على ترجمة ما كتب، ويوجد روائيون يكتبون وهم يفكرون في مترجمهم المحتمل، كما قال أحد النقاد. ولم تعد المقارنة وقفا على بعض المتخصصين بل كل المقتربين من النص العربي، بوعي أو بدون وعي، بربطه بنص أوروبي (…) لم تعد الترجمة نقل لغة إلى لغة أو أدب إلى أدب، ولم تعد مجرد نشاط فكري، بل أسلوب حياة ونمط عيش، صارت الترجمة واقعا معيشا”.
وحتى عندما اقتضت الحاجة “نقل العهد القديم إلى الإغريقية”، تم هذا في الإسكندرية، بعيدا عن أثينا، بـ”التأويل” لا بـ”الترجمة”، ولا يوجد “فعل إغريقي يدل بالضبط على الترجمة”، ثم تحدث شيشرون الروماني عن “نقل” مسرحيات الشعراء اليونانية، للتمكين “من الاطلاع على العباقرة الإلهيين، ويعني أفلاطون أساسا”.
واستحضر صاحب “انتعاشة اللغة” ما نتج من تكون الألمانية بفعل “ترجمة للإنجيل”، بعدما أراد المصلح الديني من هذا الجهد “تمكين الرجل العادي من فهم الكتاب المقدس”، وكان في هذا بالنسبة للبعض “إنزال له وسقطة، ونُظِر إلى الترجمة أحيانا كتدنيس أو على الأقل كخروج عن المعهود، واستنبات على أرض غريبة”، ثم صارت المدرسة الألمانية مدرسة “زحزحة القارئ ولغته الأم، وجعل اللغة كأنما هي غريبة عن نفسها”.
لكن “دفع هايدغر بهذه الغرابة لتقطن الألفة، فالترجمة كملاقاة بين لغتين، لا تشكل العنصر الجوهري للترجمة، لديه، حيث غالبا ما يحدث أن الكلام نفسه إذا نطق في لغته الأم يحتاج تأويلا، مما يعني حاجته إلى ترجمة”؛ وهذا ما يبرر، وفق المستشهِد، “القواميس التي تترجم اللغة ذاتها، مثل التي نحتاجها لقراءة امرئِ القيس”.
واستمرت “حياة الفلسفة الألمانية في الفكر الفرنسي عبر الترجمة”؛ وكانت “نقلا للفكر إلى ضفة أخرى، ليُستنبت في سياق آخر، ويكتشف حقيقته، فليست مجرد نقل وانتقال، بل استنبات ضمن علاقة أخرى بالعالم وتأويل له، وهكذا أخصب فرويد عند لاكان، وهايدغر عند دريدا، وماركس عند ألتوسير”.
وفسر بنعبد العالي هذا بربط الترجمة المعاني “بمجموع التصورات التي نحيا داخلها” في اللغة المترجم إليها، ثم يقول: “الترجمة نموذج تأويلي، لا نعثر على لفظ فحسب، بل نعيد بناء المعنى الأصلي للنص، في أفق لغوي جديد كل الجدة، ولا خيانة هنا، بل منذ البداية هي تحويل، وكل ترجمة تتطلب فهما يمكننا شرحه، وهذا تأويل. (…) لابد أن تعكس الاصطدام بمحدوديتنا، لتمرير ما فهمناه من لغة إلى أخرى، وهو ما يجعل منها قفزة”.
أما “التراث” فهو لدى المحاضر في حكم الترجمة؛ أي “نقل كنوز مدخرة، ونقل تأويلات عن العالم، هي التي كانت تشكل الإطار الذي ينكشف فيه لنا العالم، وتلقي ما حضر إلينا ونقله وترجمته”.
واستشهد بنعبد العالي بغادامير وتنبيهه إلى أنه “بمجرد ما نفهم بشكل مخالف؛ نؤول تأويلا مغايرا”، فـ”الفهم ترجمة”، و”كل مترجِم مؤول”.
وواصل: “كل عصر يحتاج ترجمات تناسبه، لا تعدل أخطاء الترجمات السابقة، فلا تقدم في الترجمة؛ لكن لكل جيل من الفلاسفة ترجمته لهيغل ونيتشه وماركس… وكأنها، في خيانتها التي لا محيد عنها، تكشف اللغة في طريق كشف الإنسان لذاته، والترجمة هي المفرد الأكثر جدارة للتأويل والتفكير”.
وجدد بنعبد العالي التذكير بأن التأويل أو التفكير المترادفين والترجمة لا ينبغي أن يُذهِلا عن “الصراع وعلاقة القوة؛ فما يؤخذ على التأويل أنه لا يطرح إلا في إطار تبادل لغوي متكافئ”، ولا يعتبِر “قوة اللغة الناقلة والمنقولة، ورصيدهما ومكانتهما من اللغات، فهل تعامل الإنجليزية مع النص الألماني، مثل تعامل العربية مع النص الألماني؟ هل للغتين القوة نفسها؟”.
واختتم عبد السلام بنعبد العالي كلمته نافيا عن محاضرته “هجاء الترجمة والازدواجية اللغوية”؛ بل، وكما قال الشاعر سانغور، إن حديثه يروم “القيام ضد الثنائية غير المتكافئة التي فرضها الاستعمار، بهدف الانفتاح على ازدواجية فعلية، وإنسان جديد يفكر من لغة إلى لغة”، وهي الفكرة التي استثمرها المفكر سليمان بشير ديان في كتاب له عن الترجمة، وصفها فيه بـ”لغة اللغات”.