أخبار العالم

أردوغان يفلح في التعامل مع معادلات التوازن التركي وترتيبات النظام العالمي



مــع اقتراب موعـد الاقتـراع الرئاسي والتشريعيات في تركيا، المحدد في 14 ماي المقبل، ندنو من قـراءة خارطة التحالفات الحزبية والسياسية، وترتفع درجة ترقب نتائج رئاسيات حاسمة على ضوء نتائج استقراءات رأي متباينـة بين الفرقاء السياسيين، يتضح من خلالها أن الرئيس رجب طيب أردوغان هو الشخصية المحوريــة التي تدور حولها العملية السياسية والانتخابية ككل، سواء داخل تيار التحالف أو المعارضة، إذ يتربع هاجس إنهاء فترة أردوغان على برامج تحالف المعارضة أو ما يعرف بـ”طاولة السداسية”، بل إنه البرنامج الوحيد لتحالف أحزاب المعارضة، وخاصة كمال كاليشدار اغلو، زعيم المعارضة الجديد الملقب بـ”غاندي”، في حين وطيلة عشرين سنة ظل أردوغان هو الورقة الرابحة لحزب العدالة والتنمية واللاعب الوحيد في المشهد السياسي التركي.

ومع كل ما عرفه المشهد السياسي الداخلي من تفاعلات وتغييرات على مستوى نتائج البلديات الكبرى التي فقدها حزب أردوغان في الانتخابات الأخيرة، كإسطنبول وأنقـرة، فإن الرئاسيات تحكمها ميكانزمات لها علاقة بعناصر داخلية وأخرى خارجية.

والــواقع أن موعد الانتخابات كان هو 18 يونيو 2023، لكن أردوغان اختار تاريخ 14 ماي حتى يتجنب فترة الامتحانات الجامعية وموسم الحــج. إلا أن بعض المتتبعين مالــوا إلى أن أردوغان اختار تاريخا له دلالات سياسية ورمزية تاريخية قويــة للديمقراطية التركية، إذ يصادف تاريخ 14 ماي 1950 حيث فاز زعيم الحزب الديمقراطي عدنان مندريس بالتشريعيات، لكن سرعان ما تعرض لانقلاب عسكري وتم إعــدامه سنة 1960.

وبعيدا عن تصريحات وتعهدات وأرقــام معاهد الاستقراء، سواء القريبة من “تحالف الشعب” الموالي لأردوغان أو القريبة من “تحالف الأمة” الموالي للمعارضة، فإن الإجماع ينصب على أن انتخابات 14 ماي هي مفصلية في تـاريخ تركيا ويجعل من أردوغان شخصية تختزل النظام السياسي والاستقرار الاجتماعي الداخلي والممثل القوي للمصالح التركية على المستوى الخارجي.

فلا اختلاف حول الشخصية القيادية وكاريزما الرئيس أردوغان ولا حول دهـائــه السياسي ولا كيف يقلب مؤشرات الهزيمة إلى معادلات النصر. مسار سياسي طويل وانتخابات واستفتاءات وحتى محاولة الانقلاب لـسنة 2016، كان يخرج دائما منتصرا؛ لأن الرجل يعرف كيف ينتصر فقط، لذلك فالعنوان الرئيسي لتيار المعارضة هو هــزمه، ولو كلفه الأمــر التنازل لبعض الأحزاب الصغيرة عن مكاسب سياسية كمقاعد برلمانية أو عموديات مدن كبيرة.

لقد اعتبرت المعارضة زلــزال 6 فبراير 2023 الذي ضرب تركيا وسوريا وارتفاع الضحايا إلى أرقام قياسية (حوالي 50 ألفا) والتباطؤ في عمليات التدخل والإنقــاذ وتــراخي مسؤولي قطاع البناء داخل المؤسسات الإدارية في تسليم رخص البناء ومراقبة احترام معايير الزلزال… (اعتبرته) مساحة مهمة لتوجيه انتقادات لاذعــة لسياسات أردوغان الداخلية، خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات في شهر ماي، وهي انتقادات دفعت أردوغان إلى الإعلان عن تعويضات لكل المتضررين وبنــــاء المساكن مع التعهد بتسليم نصفها عند نهايــة هذه السنة، كما نقل التلفزيون التركي لحظات اعتقال مقاولين بالمطارات، كانوا على وشك الهروب من المحاسبة والغش في بناء مساكن في أماكن مهددة بالــزلازل.

هذا بالموازاة مع انتقادات تخص القدرة الشرائية وارتفاع نسبة البطالة والتضخم وانخفاض عملة الليرة التركية أمام الدولار الأمريكي، وأيضا لــتحالفه مع أحزاب سياسية صغيرة أعلنت رفضها لقانون 6248 لسنة 2012 الذي يتناول عقاب العنف ضد المرأة والأطفال…

لكنها مع ذلك تبدو انتقادات هشة وضعيفة مقارنة مع منجزات أردوغان الداخلية، وأنــه مازال “الحصان الرابح” في لعبــة التوازنات الداخلية ومعادلات التغييرات الجيو-استراتيجية العالمية.

لذلك، فانتخابات تركيا ليوم 14 ماي ليست حــدثا داخليا يهم الداخل التركي وحده ــ بل يحظى بمتابعة سياسية قوية وتغطية إعلامية عالمية مكثفة، نظـرا لأن تغيير صفة الساكن بالقصر الرئاسي التركي هو بالتأكيد تغيير لأولويات وتوجهات السياسيات الخارجية لتركيا، إذ لم يشهد العالم تواجدا مكثفا للدور التركي في أكثر من بقعة ساخنة في العالم منذ نهاية الإمبراطورية العثمانية.

لقد وظفت تركيا/أردوغان رصيدها التاريخي ومزايا موقعها الجغرافي لفرض تصورها السياسي ووضع شروط للحفاظ على مصالحها، سواء أثــناء الربيع العربي الذي عصف بأكثر من نظام عربي، أو تداعياته في سوريا وليبيا وتونس ومصـر، أو من خلال ديبلوماسية الوساطة في ملفات الرهائن في العديد من المناطق الإفريقية والآسيوية.

وبلغة الأرقام، فإن تركيا/أردوغان اليوم هي فاعل اقتصادي قوي بإفريقيا من خلال ضخ استثمارات مهمة، وهي فاعل سياسي كبير، سواء في مجال الهجرة وتحكمها في منسوب تدفق الهجرات الجماعية نحو دول أوروبا الغربية منذ سنة 2015، أو في مجال الوساطات، خاصة بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا حيث ظهر الرئيس أردوغان كلاعب مهم من خلال استضافة العاصمة أنقــرة وفــود مفاوضات السلام، أو من خلال محادثاته المباشرة مع الرئيس الروسي فلادمير بوتيــن، خاصة في ملف أزمة الحبوب والطاقة.

لقــد دافعت تركيا/أردوغان عن مصالحها، سواء في ملفات الهجرة أو الحرب أو السلم، وهو ما جعل من الرئيس أردوغان هدفا لانتقادات رؤساء غربيين كالرئيس ماكرون وحكومات ألمانيا وهولندا في وقت سابق، وهجوم مواقع إعلامية ومنظمات حقوقية عالمية.

كما دفعت تركيا/أردوغان إلى احترام توجهاتها وترتيب أولوياتها الوطنية، فهي عضو “تحالف الناتو” الذي اشترى دفاعات روسية متطورة ولم ينخرط في العقوبات الغربية على موسكو، لأنها لم تصدر عن مجلس الأمن الدولي، ورفض انضمام السويد إلى حلف الناتو، لأنها تستضيف على ترابها جماعات ومنظمات تعتبر حسب القانون التركي إرهابية “حزب العمال الكردي”.

لذلك، لا يمكن تصور ترتيبات النظام العالمي الجديد بدون الدور التركي وبصمة الرئيس أردوغان التي نجدها في كل الملفات الساخنة بالشرق الأوسط وإفريقيا والبحر المتوسط والبلقان، وهو الدور الذي جعل العديد من الجهات الخارجية تتمنى خسارته وإنهــاء فترة توهج تركي على المستوى الخارجي، وفي الآن نفسه جعل أخرى تتمنى فــــوزه لاستكمال ترتيبات بنــاء تحالفات سياسية واقتصادية جديدة لمرحلة ما بعد نهاية الحرب الباردة؛ فهل سقوط الرئيس أردوغان في امتحان يوم 14 ماي 2023 هو سقوط لكل تركيا أم إن حظوظه في الفوز وعقلية النصر ستجعل من هذا اليوم تماهيا مع ذكرى الفوز التاريخي للحزب الديمقراطي سنة 1950 ونقلة نوعية في المجال الديمقراطي على المستوى الداخلي وترسيخا لدور تركيا/أردوعان على مستوى النظام العالمي الجديد؟

سنتابع…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى