أخبار العالم

الاقتصادي محمد شيݣر يناقش التضخم وتآكل النوابض الاجتماعية في المغرب



قال الاقتصادي المغربي محمد شيݣر، رئيس مركز الدراسات والأبحاث عزيز بلال، إن التضخم إذا ما لازم السوق ولم يجتث قبل أن يصبح ظاهرة هيكلية كما هو الشأن بالنسبة للجفاف، فسيأتي على اليابس والأخضر لكونه لن يضعف القوة الشرائية فقط بل سيتلف شبكة الأمان الاجتماعي.

وأضاف شيݣر، الذي كان مديرا للدراسات ومراقبة التدبير بإحدى أكبر المؤسسات المالية في المغرب، في مقال توصلت به هسبريس بعنوان “التضخم وتآكل النوابض” أن التضخم لم يأت على القوة الشرائية فقط بل تعداها لتسريع وتيرة تآكل النوابض الاجتماعية التي تشكل شبكة الأمان الاجتماعي.

مقال شيݣر، الذي عمل أستاذا زائرا بجامعة محمد الخامس، يتطرق لهذه النوابض وتأكلها، ويتحدث أيضا عن سياسة بنك المغرب والحكومة في مواجهة هذا التضخم الذي انتشر كالنار في الهشيم ليضرب في الصميم القدرة الشرائية للمغاربة.

هذا نص المقال:

في البداية اقتصر ارتفاع الأسعار على بعض المواد المستوردة كالمحروقات وزيت المائدة والحبوب وذلك نتيجة عوامل خارجية تتعلق أساسا بمخلفات الجائحة والحرب الأوكرانية الروسية والتقلبات المناخية. كان بإمكان الحكومة وبنك المغرب تدارك الموقف واحتواء هذا الارتفاع -خاصة ذلك المتعلق بأسعار المحروقات- قبل أن يتعمم ويتحول إلى تضخم، لكن هذا ما لم يحدث، حيث انتشر الغلاء انتشار النار في الهشيم ليضرب في الصميم القدرة الشرائية ويسرع من وتيرة تآكل النوابض الاجتماعية وإتلاف شبكة الأمان الاجتماعية.

1- عندما يلتقي بنك المغرب والحكومة في تدبير غير موفق لظاهرة التضخم

إذا كان مصدر ارتفاع الأسعار في بدايته خارجي فإن مصدر تعميمه الذي تولدت عنه ظاهرة التضخم، داخلي. في غياب الصرامة في التعامل مع هذه الظاهرة وطريقة معالجتها من طرف بنك المغرب، فسح المجال لكل من اعتاد على الصيد في الماء العكر على تكثيف صيده إرضاء لشجعه. فمع مطلع سنة 2023 وفي الوقت الذي بدأت أسعار المواد المستوردة تنخفض نسبيا، ارتفعت وبشكل غير مسبوق أثمنة منتوجات محلية كالخضروات واللحوم الحمراء إضافة إلى فوائد القروض. فالحكومة أظهرت من جهة، قصورا مريبا في تعاملها مع ارتفاع أسعار المواد المستوردة خاصة المحروقات منها ومن جهة أخرى، استخفافها بالرأي العام بإرجاع ارتفاع أسعار المنتجات الداخلية إلى عوامل الطقس (البرودة والجفاف) دون الإشارة إلى أنها أخلت بأحد ركائز التدبير العقلاني المتمثل في الاستباقية. فمهمة الحكومة الأساسية ليست هي إطفاء الحرائق ولكن العمل على تجنبها.

أثبتت الحكومة ما ذهب إليه الفكر الليبرالي المهيمن حيث يعتبر أن الحكومة كيفما كانت، لا تحسن تدبير التضخم لطبيعتها الفئوية وعدم قدرتها على مقاومة اللوبيات، لكن هذا الفكر الذي ما انفكت تروجه المؤسسات المالية الدولية وتحث على اعتناقه على الرغم من محدوديته التي تجلت وبشكل لا يناقش خلال الأزمة الصحية الناجمة عن فيروس كوفيد-19، جانب الصواب بدعوته إلى تمكين البنوك المركزية من استقلاليتها كشرط عين لضمان استقرار الأسعار باعتبار هذا الاستقرار من أولويات هذه المؤسسات. هذا التوجه مبني على المقولة الشهيرة التالية لأحد رواد هذا الفكر، الأمريكي ميلتن فريدمان: “في كل مكان وفي كل وقت، التضخم ظاهرة نقدية” والحقيقة غير ذلك. فالتضخم قد يكون مصدره نقدي وقد يكون غير ذلك. فما ترتب على كوفيد-19 من انقطاع في التمويل وارتفاع في أثمنة الشحن وما أفرزته الحرب الأوكرانية الروسية من زيادة في أسعار المحروقات والحبوب وما خلفته التداعيات المناخية من ندرة في بعض المواد، كلها عوامل غير نقدية يصعب للبنك المركزي معالجتها. على الرغم من هذا، فالبنك المركزي الأمريكي الذي يعد أحد دعاة هذا الفكر، قام بمراجعة سياسته النقدية التي كانت تروم الإبقاء على نسبة فائدة ضعيفة بالرفع من نسبة الفائدة المديرية.

أن تسير على نهج البنك المركزي أبناك مركزية أخرى لدول متقدمة (الاتحاد الأوروبي واليابان وبريطانيا العظمى)، فهذا شيء مفهوم إلى حد ما، لكن أن يقلده بنك المغرب ابتداء من شهر شتنبر 2022 فهذا شيء يُثير الاستغراب ويحتاج إلى توضيح. تماهي الأبناك المركزية للبلدان المتقدمة مع البنك المركزي الأمريكي يعود إلى تداخل اقتصادياتها وترابط مصالحها، فاقتصاديات هاته البلدان مَثَلُ الجَسَدِ الواحد إذا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ (خاصة الأمريكي) تَدَاعَى له سَائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والحُمَّى. اعتادت هذه الأبناك على التزامن (synchronization) في ما بينها. على هذا الأساس، تقاسمت تقريبا السياسة نفسها، قبل أن يبادر البنك المركزي الأمريكي إلى تغييرها حيث اعتمدت “التليين الكمي” كتقنية نقدية غير معتادة واتبعت سياسة تسييل الديون السيادية للرفع من صبيب السيولة دون أن يكون لما ضخ من نقود ما يقابله على مستوى الإنتاج، وذلك للتأثير على نسبة الفائدة لتبقى في مستوى ضعيف وتجنيب الاقتصاد الانكماش النقدي (أو ما يمكن التعبير عنه بالتضاؤل) بالحفاظ على نسبة التضخم في المستوى المستهدف (2 في المائة)، وفسح المجال لدولها لتدعيم القطاعات الاجتماعية والاقتصادية والتخفيف من الصدمات سواء منها الداخلية أو الخارجية المتتالية خاصة منها تلك المرتبطة بأزمتي 2008 وجائحة كوفيد.

لم يُساير بنك المغرب هاته الأبناك لما كانت تعمل على توفير السيولة خدمة لاقتصاداتها المحلية ومساهمة منها لتمكين دولها من النهوض بمهامها الاجتماعية والاقتصادية. تجاهل تقنية “التليين الكمي” معتبرا إياها تقنية لا فائدة منها، لكنه لم يمانع في السير على خطاها لما قررت رفع نسبة الفائدة المديرية على الرغم من تحذير المتتبعين إلى ما قد يترتب على هذا الارتفاع من انكماش قد تختلف حدته من دولة إلى أخرى ومن منطقة إلى أخرى، وتنبيه بعض المختصين إلى البعد الجيو-استراتيجي لقرار البنك المركزي الأمريكي (وهذا موضوع يستحق مقالا منفردا بارتباطه بالحرب الأوكرانية الروسية). الأدهى من هذا أن البنك تغاضى على مؤشرات الاقتصاد الوطني وتخلى عن تحليله الموضوعي للظرفية المحلية، والذي على ضوئه قرر مجلسه المنعقد في يونيو 2022 الإبقاء على مستوى نسبة الفائدة المديرية ليقرر في شتنبر 2022 ثم في دجنبر الرفع من نسبة الفائدة المديرية بخمسين نقطة على التوالي، لا لأن الظرفية تغيرت ولكن لتفضيله التزامن مع الأبناك المركزية الكبرى حتى وإن كان هذا التزامن يدفع في اتجاه تعميم ارتفاع الأسعار من خلال الزيادة في نسب فوائد القروض وما يترتب عليها من ارتفاع في كلفة الاستثمارات من جهة، واستغلال من لا ضمائر لهم للرفع دون مبرر من هامش ربحهم من جهة أخرى. هذا التوجه يطرح أكثر من علامة استفهام. كيف يمكن تفسير تبرير رفع سعر الفائدة على أساس التزامن في الوقت الذي تشير فيه المعطيات الموضوعية إلى عدم الزيادة في نسبة هذه الفائدة خدمة للاقتصاد الوطني؟ ماذا حدث بين يونيو وشتنبر ليتخلى البنك عن تحليله الموضوعي للوضع الاقتصادي؟ ما معنى التزامن بالنسبة لبنك مركزي لبلد في طريق النمو؟ هل استسلم البنك لضغوطات خارجية لتغيير موقفه؟ الأرجح أن هذا ما حدث خاصة إذا علمنا أن بنك المغرب يتقاسم والمؤسسات المالية الدولية نفس الفكر في تدبيره للتضخم، وفي سنه لسياسته النقدية عامة. على هذا الأساس، فاستقلاليته عن الحكومة لا مبرر لها ما دام هو الآخر ليس بمنأى عن الضغوطات وما دام لا يحسن تدبير التضخم غير النقدي مثله مثل الحكومة.

لهذا لا بد من إعادة النظر في المرجعية الفكرية الداعية إلى استقلالية البنك المركزي ومراجعة التضخم كإحدى أولويات هذه المؤسسة، لاستبداله بأولوية تكون في متناوله ويكون لها الوقع الحسن على المستويين الاجتماعي والاقتصادي كمحاربة البطالة أو تطوير الاقتصاد الأخضر. إن التمادي في التشبث بهذه المرجعية التي أثبتت أزمة 2008 وجائحة كورونا قصورها والتي أظهرت محدوديتها في التصدي للتضخم غير النقدي، قد تكون له عواقب وخيمة وقد يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه. فالبنوك المركزية بإصرارها على الالتزام بمرجعية أكد الواقع عدم صلاحيتها لن تزيد الأمور إلا تعقيدا. وهذا ما لوحظ برفعها لنسبة الفائدة المديرية حيث إن عدد الدول التي توجد في وضعية الانقطاع عن أداء ديونها انتقل من 22 سنة 2022 إلى 52 حاليا هذا، دون الإشارة إلى أن مثل هذا الإجراء قد يطعم التضخم أكثر من أن يحد منه. ففي المغرب مثلا، تعمم ارتفاع الأسعار ليصبح تضخما. والملاحظ أن هذا التضخم لم يأت على القوة الشرائية فقط بل تعداها لتسريع وثيرة تآكل النوابض الاجتماعية التي تشكل شبكة الأمان الاجتماعي.

2- التضخم وتآكل النوابض الاجتماعية

بتشكيلها لشبكة الأمان الاجتماعية، تُساهم النوابض الاجتماعية في الحفاظ على التوازن الأسري وتدعيم التماسك الاجتماعي وتكريس الاستقرار المجتمعي. لهذا فأي مساس بها قد يخل بالتوازن الأسري وقد يحدث تصدعا في التماسك الاجتماعي ليعرض بالتالي المجتمع إلى عدم الاستقرار. لهذا، فمهما كانت الكلفة الميزانياتية لصيانة هذه النوابض مرتفعة، فإنها ستظل أقل بكثير من كلفة إضعاف هذه النوابض ومن إتلاف شبكة الأمان الاجتماعية. لهذا، لا خِيار للدولة غير التصدي للتضخم حتى لا يأتي على هذه النوابض. فإذا كان المغاربة قد أظهروا إلى حد الآن نوعا من التجلد على ما يعانونه من تراجع في قوتهم الشرائية وأبانوا عن قدرة تحمل غير مسبوقة فلأنهم وجدوا في هذه النوابض ما ساعدهم إلى حد بعيد على التحمل خاصة بعد ما يناهز 30 سنة من استقرار في الأثمنة. لكن هذا التحمل لا يمكنه الاستمرار باستمرار تآكل النوابض الاجتماعية. لهذا، لا بد من الإسراع في إلجام التضخم حتى لا يضيع المغرب على نفسه امتيازه المقارن الذي ينفرد به بمنطقته والمتمثل في الاستقرار والتوافق الموضوعي لقواه الحية.

من أهم هذه النوابض، هناك خمسة سنأتي على ذكرها الواحد بعد الآخر:

1- نظام المقاصة

في البداية لا بد من التأكيد على أن المقاصة لا تعني الدعم. فهي لا تستند إلى الميزانية العمومية ولكن تعتمد ميكانيزم العدال (Péréquation) للحفاظ على توازنها وذلك على أساس تعويض متبادل بين المواد التي تشملها المقاصة. فالفائض الذي تسجله بعض المواد يحول لتغطية عجز البعض الآخر. في حالة ما إذا سجل النظام فائضا فيحتفظ به تحسبا لأي خصاص محتمل. ويعود هذا النظام، المكون من صندوق المقاصة والمكتب الوطني للحبوب والقطاني، إلى عهد الحماية التي وظفته لصالح المعمرين. وفي السبعينيات من القرن الماضي، قامت الدولة بإصلاحه لدعم الإنتاج المحلي خاصة منه إنتاج السكر والحبوب وتحقيق الاكتفاء الذاتي من بعض المواد الحيوية كالحليب وزيت المائدة. فلتوفير صناعة سكرية مثلا وتطويرها، كان لا بد من حمايتها مقابل تفعيل المقاصة للحفاظ على القوة الشرائية للمواطن في وقت كان فيه ثمن السكر في السوق الخارجي أرخص من السكر المنتج داخليا. في الاتجاه نفسه، دعم الفلاح المنتج للحبوب استوجب تدخل المقاصة للحفاظ على ثمن الخبز في مستوى لا يضر بالقوة الشرائية للمواطن. هذا النظام الذي انفرد به المغرب في منطقته لم يوجد إذن لدعم الفقراء كما يدعي الكثيرون وكما روجه الخطاب الرسمي ومازال بإيعاز من صندوق النقد الدولي، الذي استغل العجز الذي عرفه صندوق المقاصة نتيجة تضريب مواده بعد الإصلاح الضريبي لسنة 1986 خلافا للمكتب الوطني للحبوب والقطاني الذي ظل رصيده إيجابيا إلى أن امتصته الخزينة.

وُجدت المقاصة لتحقيق هدفين أثبتت الجائحة مدى أهميتهما الاستراتيجية ألا وهما دعم الإنتاج المحلي وتحقيق الاكتفاء الذاتي. فلو استمرت الدولة المغربية على المنوال نفسه، الذي اعتمدته عند إصلاحها لنظام المقاصة لكان المغرب اليوم في وضعية أحسن. فعجز صندوق المقاصة جاء نتيجة تخلي الدولة عن المنهجية الاقتصادية الاجتماعية لصالح المنهجية المحاسبتية. هذا التخلي حول المقاصة إلى منبع ريع بالنسبة لمنتجي ووسطاء المواد التي تشملها المقاصة. وبدل إصلاحها من الداخل للقطع مع الريع والالتزام بمفهومها الصحيح ومضمونها الإيجابي، شرع في تفكيكها خاصة بإخراج المحروقات من مضمارها دون أي إجراءات مصاحبة، والنتيجة ما نعيشه الآن من تضخم وما عايناه منذ فترة من جشع شركات التوزيع. سيقول قائل كيف للميزانية أن تتحمل ما لا طاقة لها به. كان بالإمكان الاسترشاد بالطريقة الناجعة التي دبر بها المغرب الجائحة (الصندوق الخاص بتدبير جائحة فيروس كورونا-19) والتي ثمنها الجميع، كما كان من الممكن الاستئناس بالسياسة النقدية غير التقليدية التي اتبعتها بعض الدول المتقدمة لدعم الاقتصاد والتصدي للخصاص الاجتماعي. ماذا كان سيحدث لو رفعت الحكومة يدها عن البوطان؟ إن الدعوة إلى حقيقة الأثمنة في المطلق التي تسوغها المؤسسات المالية على شكل توصية، دعوة ملغومة ليس فقط لأن الجائحة أثبتت محدودية السوق ولكن لأنها دعوة غير بريئة تقوم على تفضيل التوازنات الماكرو-اقتصادية التي لها طابع محاسبتي على حساب التوازنات الاجتماعية والمجتمعية التي لها طابع إنساني دون مراعاة الواقع المَعِيش.

حتى وإن كانت هاته الدعوة التي تتسم بالدوغمائية تدخل في إطار الإكراهات الخارجية، فهذا لا يشفع للحكومة التزامها بها ما دامت لا تخدم التماسك الاجتماعي ولا تراعي المصلحة العليا للبلاد المتمثلة في الاستقرار بالدرجة الأولى. فالمؤسسات الدولية المالية ليست قدرنا حتى نجعل منها سيف ديموقليس. لقد أثبت المغرب قدرته على الوقوف الند للند أمام دول كانت البارحة تبتزه وأكد صحة ما جاء على لسان المتنبي: “على قدر أهل العزم تأتي العزائم”. فما الذي يحول دون تمديد تقوية قدرته التفاوضية لتشمل المؤسسات الدولية المالية، خاصة وأن ما يعاب على هذه المؤسسات وما يحسب عليها هو أكثر بكثير مما يحسب لها؟

2- تعدد مصادر الدخل:

أثارت انتباهي قدرة الفئات المتوسطة على التحمل خلافا لنظيرتها في بعض الدول كفرنسا. ففي هذه الدولة الأوروبية دفع ارتفاع أسعار المحروقات الفئات المتوسطة إلى تغيير سلوكها وإعادة النظر في عاداتها الاستهلاكية. في هذا الإطار، تخلت شرائح كبيرة منها عن السيارة الشخصية لصالح “السيارة التشاركية” والنقل العمومي والدراجة الهوائية و”تروتينت”، بينما حافظت الطبقة الوسطى المغربية على سلوكيات ما قبل ارتفاع ثمن المحروقات. يكفي للمرء الوقوف على قارعة الطريق ساعة دخول أو خروج الأجراء من مقرات عملهم ليلاحظ كيف أن معظم السيارات لا يركبها إلا السائق. قد يقول قائل بأن هذا السلوك قد يعود إلى ضعف النقل العمومي وربما إلى إعادة ترتيب الأولويات. قد يكون الأمر كذلك، لكن الظاهر أن السيارة بالنسبة للفئات المتوسطة ليست وسيلة للنقل فقط بل إنها مؤشر على الوضع الاجتماعي في مجتمع يولي الأهمية للمظهر أكثر منه للجوهر. فالمغربي قد لا يرى أي حرج في التخلي عن السلوك العقلاني إذا كان هذا السلوك لا يخدم مظهره. لهذا، كثيرا ما يلجأ إلى البحث على مصادر دخل تكميلي لتغطية ضعف دخله الرئيس وللاعتناء بمظهره. من هذه المصادر هناك: أ- الزواج الطبقي: غالبا ما تتزوج الفئات المتوسطة في ما بينها للاستفادة من دخلين بحكم اشتغال الزوجين. لهذا لا بد من مقاربة الطبقة الوسطى على أساس الأسرة لا الفرد. ب- الكراء: تلجأ شريحة من الفئات الوسطى إلى تشييد عمارات صغيرة بالأحياء الشعبية من طابقين إلى أربعة طوابق. باستثناء الطابق السفلى الذي يخصص لمحلات تجارية، فالطوابق الأخرى من شقة واحدة لكل منها، يحتفظ بإحداها المالك كمسكن ويخصص الباقي للكراء لضمان دخل تكميلي. ج- أنشطة مدرة للدخل: تتعاطى شرائح من هذه الطبقة لأنشطة اقتصادية غير مهيكلة في قطاعات مختلفة كالفلاحة والعقار وذلك لتحسين مستواها المعيشي.

هذا الحرص على تنويع مصادر الدخل، ظاهرة لا تقتصر على الطبقة الوسطى بل تهم كذلك الطبقة الميسورة بشكل أكبر مع فارق أساسي في المبتغى. فإذا كان هم الفئات الوسطى هو ضمان عيش كريم، فإن هاجس الطبقة الميسورة هو تحصين ثروتها من خلال تنويع مصادر ممتلكاتها. على هذا الأساس، تعتمد الطبقة الميسورة المغربية على منهجية “ممتلكاتية” لاكتناز المال على حساب المنهجية المقاولاتية. وهذا ما يفسر إلى حد بعيد صعوبة تطوير الثقافة المقاولاتية وتوسيع رقعتها. فالمقاول عملة نادرة بالمغرب خلافا لـ”صاحب الشكارة” وللطفيليات من مضاربين و غيرهم، التي تقتات من الريع و ترى في الغش و الزيادة في الأثمنة غير المشروعة، “همزة” لا تتورع في الفوز بها.

بجانب هذه المصادر التي تعتمدها الطبقة الوسطى لتحسين دخلها والتي يمكن اعتبارها مصادر حميدة، هناك مصدر خبيث تلجأ إليه بعض الشرائح التي تستغل موقعها للاغتناء بطريقة غير مشروعة ولا أخلاقية وذلك من خلال فرض “قهوة” حتى لا نقول رشوة مقابل تدخلها أو ما تقوم به من خدمات. وقد تلجأ هذه الشرائح الفاسدة إلى مشيرة (Indexation) الرشوة بربطها بالتضخم لتعميم الفساد وتفشي السحت.

3- الاقتصاد غير المهيكل:

يندرج الاقتصاد غير المهيكل واقتصاد القبو والاقتصاد المحرم في إطار ما يعرف بالاقتصاد غير المرئي الذي يشكل والاقتصاد المهيكل اقتصادا وطنيا مركبا. ويعرف النشاط غير المهيكل بكونه نشاطا لا يتوفر على محاسبة كما هو معمول بها طبقا للقانون الجاري به العمل، الشيء الذي لا يسمح للمحاسبة الوطنية بالإمساك بقيمته المضافة، وبذلك، فهذه القيمة لا تضاف إلى الناتج الداخلي الخام.

هذا التعريف يدفع البعض إلى التركيز على مساوئه دون الانتباه إلى محاسنه التي تجعل منه نابضا اجتماعيا بامتياز. قد يفوت على الخزينة مداخيل هي في أمس الحاجة لها، لكن تفويته هذا ليس نتيجة غش أو تملص من الضريبة كما هو الشأن بالنسبة لما يلاحظ على مستوى الاقتصاد المهيكل حيث أكثر من 60 في المائة من المقاولات تصرح بخسارة أو بعدم تحقيق ربح حتى لا تؤدي الضريبة على الشركات. وقد لا يلجأ في تعامله للفواتير ولا إلى احترام مدونة الشغل، لكن هذا التعامل لا يقتصر عليه وحده فقد نجده في الاقتصاد المهيكل كذلك.

إن ما يجب التركيز عليه هو النهج الذي يجب اتباعه للبحث عن صيغة محاسباتية توافقية لمحو الفارق بين الناتج الداخلي الخام الرسمي والناتج الداخلي الخام الحقيقي. لجوء المحاسبة الوطنية إلى تقدير قيم مضافة لبعض أنشطة غير المهيكل تظل مجرد تقديرات محدودة وغير كافية. من الضروري إيجاد صيغة محاسباتية خاصة للمسك بالقيمة المضافة لهذا القطاع دون الإخلال بدوره كنابض اجتماعي. فالعمل بناتج داخلي خام لا يغطي كل ما ينتجه الاقتصاد الوطني المركب من ثروة ينعكس على هامش تحرك الحكومة في إطار التزاماتها الدولية وتدبيرها للإكراهات الناجمة على اعتمادها الفكر المهيمن كمرجعية لسياساتها العمومية وتبنيها لما حدده من مؤشرات كمعايير للضبط وقياس مدى صحة المالية العمومية. من بين هذه المؤشرات الأكثر تداولا الإبقاء على عجز الميزانية في حدود 3 في المائة من الناتج الداخلي الخام وعدم تجاوز المديونية 60 في المائة من هذا الناتج. إلى جانب اعتباطية معيارية هذه المؤشرات (كـ3 في المائة و60 في المائة) حيث إن مستوياتها لم تحدد على أساس علمي، فاحتسابها في المغرب على أساس ناتج داخلي خام أقل من الناتج الداخلي الخام الحقيقي يجعلها منفوخة، الشيء الذي يقلص من هامش تحرك الحكومة خاصة على المستوى الاجتماعي. إذن، يكفي التوصل إلى صيغة محاسباتية توافقية للمسك بالقيمة المضافة لغير المهيكل لتوسيع هذا الهامش دون الإخلال بالتوازنات الماكرو-اقتصادية.

لهذا، بدل الحديث عن محاربة الاقتصاد غير المهيكل يجب العمل على مصاحبته، فالعيب ليس فيه بل في الاقتصاد المهيكل الذي لم يستطع استيعابه. فلولاه لتضاعفت رقعة الفقر ولتجاوزت نسبة البطالة 20 في المائة على الأقل في المتوسط. وإذا أضفنا اقتصاد القبو الذي يمتص أكثر من 75 في المائة من النساء الناشطات لتجاوزت هذه النسبة 30 في المائة. فغير المهيكل يشكل لوحده شبكة أمان اجتماعي قائمة الذات جنبت المغرب الأسوأ.

4-التضامن والتكافل الاجتماعيين:

كل مغربي(ة)، من الطبقة الوسطى خاصة ومن مغاربة العالم، يعتبر صندوق ضمان اجتماعي متحرك لكونه يتكفل بعضو أو أكثر من عائلته الممتدة. فالموظف (ة) مثلا يقوم شهريا بإعادة توزيع دخله بتخصيص مبلغ منه لمساعدة والديه أو لإعانة أعضاء من أسرته الممتدة. فهو يقوم مقام الدولة عبر ضمان تغطية اجتماعية أسرية (معاش ومصاريف للتطبيب وتعويض عن البطالة وتمويل الدراسة… إلخ). لهذا فصافي ما يتقاضاه هو غير صافي ما يتصرف فيه فعليا. فلو نهضت الدولة بوظيفتها الاجتماعية وتحملت ما تتحمله صناديق الضمان الاجتماعي المتحركة من مصاريف لاحتسب عجز ميزانيتها برقمين. قد يقول قائل إن تعميم التغطية الاجتماعية سيضع حدا لهذه الظاهرة. قد يحد منها نسبيا دون إلغائها باعتبارها تندرج في إطار التضامن الأسري ولأن التغطية الاجتماعية لن تشمل كل حاجيات من هم في وضعية غير مريحة والذين يقدرون بأكثر من عشرين مليون نسمة.

إن ما يهدد التضامن الاجتماعي يتمثل في الانتقال الديموغرافي الذي يعيشه المغرب منذ مدة. هذا الانتقال سيؤدي تدريجيا من جهة، إلى إعادة هيكلة المجتمع على أساس الأسرة النووية بدل الأسرة الممتدة وبالتالي إلى التخلي عن “الدار الكبيرة” والسكن الأفقي لصالح الشقة والسكن العمومي ومن جهة أخرى، إلى تحولات قيمية عميقة قد تؤدي إلى إضعاف التضامن الاجتماعي. موازاة مع هذا المنحى، المغرب يشيخ مبكرا واقتصاده مازال اقتصادا ضعيفا، الشيء الذي سيطرح على الدولة تحديات قد يصعب عليها رفعها خاصة وأنها إلى حد الآن لا تستغل العائد الديموغرافي المتمثل في أمواج الشباب التي تلج سوق الشغل. فنسبة بطالة الساكنة المتراوح أعمارها بين 15 سنة و24 سنة تصل إلى 32,7 في المائة، أما نسبة حاملي الشواهد فقد تجاوزت 60 في المائة. ومن 27,5 مليون نسمة من الساكنة النشيطة 15,3 مليون خارج سوق العمل. بجانب هذا، شاب من بين أربعة لا يشتغل ولا يتابع دراسته ولا يستفيد من أي تكوين.

5- السوق المغربية التقليدية:

تميزت السوق المغربية الخاصة بالحاجيات المتعلقة بالمأكل والملبس ببعدها الاجتماعي من خلال مرونة الولوج إليها ونزوعها إلى تساوي الطلب الفعلي بالطلب المحتمل. فكل المحفظات خاصة منها الضعيفة، كان بإمكانها إرضاء حاجياتها. إن السوق، قبل عاصفة التضخم، كانت توفر لها مواد استهلاكية من الخضر أساسا بأثمنة في المتناول. وهكذا، كان بالإمكان بمبلغ لا يتعدى 20 أو 30 درهما اقتناء خليط من الخضر لإعداد وجبتين أو ثلاث وجبات. كما كان بالإمكان شراء كيلوغرام من أي مادة من المواد المعروضة حسب القدرة الشرائية للمستهلك. فثمن الطماطم مثلا، كان يختلف حسب النوعية، فقد تجد صنفا منها بخمسة دراهم وصنفا ثانيا بأربعة أو أقل بقليل وصنفا ثالثا بدرهمين ونصف أو درهمين.

هذه الخاصية التي جعلت السوق المغربية التقليدية تصطبغ بصبغة اجتماعية، تخص كذلك جناحها المخصص للألبسة والمعروف بسوق “البال”. فهذا الجناح يسمح لذوي الدخل المحدود اقتناء ألبسة (تكون أحيانا موقعة) بأثمنة زهيدة. في المجمل تساهم السوق التقليدية في توفير الحد الأدنى من الحاجيات وبالتالي في الحد نسبيا من الغبن الذي يمكن أن يشعر به ذوو الدخل المحدود.

ختاما، إن التضخم إذا ما لازم السوق ولم يجتث قبل أن يصبح ظاهرة هيكلية كما هو الشأن بالنسبة للجفاف، فسيأتي على اليابس والأخضر لكونه لن يضعف القوة الشرائية فقط بل سيتلف شبكة الأمان الاجتماعي كذلك بإفراغ النوابض الاجتماعية من محتواها. فباستثناء النابض الخبيث المتمثل في السحت الذي قد يستفيد من التضخم ليتفشى ويتجدر أكثر، فالنوابض الأخرى لن تستطيع الحفاظ على فعاليتها خاصة أن من بينها من هو في طريق التفكك كالمقاصة أو من يعاني من التآكل كالتضامن والتكافل الاجتماعيين. لهذا، لا بد من التصدي لهذه الظاهرة بحزم والعمل على قطع أواصرها دون هوادة. فحقيقة الأسعار لا تعني الافتراء على الأسعار وتحريرها لا يعني الفوضى. ثم إن قانون العرض والطلب لا يعني قانون الغاب والسوق لا تعني الجشع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى