آخر خبر

رحلة القوة الناعمة في سرد مي خالد


أخذ أدب الرحلة الذي كتبه الرجال نصيبا كبيرا من الاهتمام في الدراسات والحياة الثقافية، وقام بدوره في إظهار صورة الآخر، كما أصبح محفزا للقراء كي يقوموا براحلات مماثلة عن طريق التأثير بالصورة القلمية في ذهن المتلقي، بل إن الأعمال الإبداعية تقوم بهذا الدور أيضا حينما تكون مركزيتها المكان.

ربما لم يأخذ أدب الرحلة في السرد النسوي مساحة مهمة في الكتابات النقدية الثقافية، مع أنه يقدم رؤية حريصة على ذكر تفاصيل الحياة الدقيقة، وهذا ما يميز عين المرأة التي ترى الأشياء الدافعة إلى التفاعل الحيوي بمنظور جمالي، وهذا ما يجده القارئ في كتاب “مصر التي في صربيا” للأديبة مي خالد، وهو تدوين لرحلة عاشتها الكاتبة في احتفالية الصرب بذكرى عالم اللغويات “فوك كاراديتش” (1778م – 1864م) وهو أبو الفولكلور الصربي وجامع مادته ومطور اللغة الصربية.

هذا المدخل يجعلنا نضع في الاعتبار أن العلماء والأدباء والفلاسفة هم أصحاب العقول التي وضعت للهويات الجمعية مفرداتها وحافظت على شخصيتها واستطاعت أن تقيم الجسر بين الماضي والمستقبل عن طريق اللحظة الحاضرة المشحونة بروح التاريخ.

في هذه الرحلة قابلت مي خالد شخصيات تعشق الهوية الصربية بأشكال مختلفة سواء أكانت تهتم باللغويات أم بالفولكلور والأدب بصفة عامة أم بالفنون الجميلة، فنحن مع الكاتبة لا نعيش أجواء متحف “كاراديتش” فقط بل نتابع معالم البيئة في لوحات “ميكا بوبوفيتش” (1923م – 1996م) ونعبر بين الشرق والغرب من خلال رواية “جسر نهر درينا” لأديب نوبل “أيفو أندريتش” (1892م – 1975م).

والأمر الذي يجذب الانتباه أن القائمين على المتاحف والفعاليات الذين قابلتهم مي خالد في رحلتها يعشقون تلك الشخصيات التاريخية ويتحدثون عنهم بالنوبل الذي يليق بقيمتهم، فالذي يعمل في رعاية الثقافة والفنون لا يؤدي مهنة إدارية إنما هو سفير لبلاده حتى لو كان مقيما فيها لم يغادرها، وهذا ما رأته مي خالد في القائمين على رعاية المؤسسات الثقافية في قرية “ترشيش” بصربيا.

يستمتع القارئ بجماليات المكان وأساليب الحياة ومذاقها من خلال أنواع الأطعمة والموسيقى والطبيعة التي تجمع سحر الشرق والغرب معا بروح محلية خاصة، والأهم من ذلك طبيعة الإنسان الذي رأته الكاتبة بنماذجه المتعددة التي يجمعها محبة الحياة واحترام الآخر وتقدير الثقافة والاهتمام بالبيئة والعطف على الحيوان والعمق الروحي الذي يجعل الإنسان قادرا على فهم الآخر واستيعابه ومفكرا بجدية في جوانب الحياة الخفية عنه التي يمارسها بشر آخرون كما شركاء له في الإنسانية، وهذا ما يجعل حديث مي خالد عن الإنسان شديد الأهمية، لأنه يتجاوز التنميط والعنصرية ويرى في البشر جوهرا روحيا مهما اختلفت ألسنتهم وطقوس حياتهم الظاهرة فخلف الصورة النمطية هناك الإنسان الحقيقي الذي يجد مشتركا عظيما بينه وبين الآخرين ويستطيع أن يدرك مشاعرهم وتصوراتهم ويعبر عن ذلك مقيما ذاك الجسر الجميل الذي يعبر بالإنسانية متجاوزا عوائق التعصب الموضوعة في أحراش التاريخ.

من تلك العلاقة الجدلية بين الذات والآخر عبر البيئة ومن خلال التفاعل البشري الذي يقارب بين الهويات تسافر مي خالد من صربيا إلى مصر أيضا، فكل ظاهرة هناك تجد لها نظيرا وكل صورة تذكرها بصورة في بلدها، فكأن الرحلة قراءة للذات وهذه القراءة عند مي خالد لها متوالية من المفردات الجمالية المرتبطة بالفنون بخاصة الموسيقى والدراما، فالفن في العصر الحاضر قدم للذاكرة علامات ترتبط بتاريخها الفردي والجمعي وهذه العلامات قادرة على أن تكون حلقات رابطة بين مرجعية الذات ومرجعية الآخر.

إن الهوية مجموعة من المفردات كتبها المبدعون الذين يمثلون تاريخ الأمم والاحتفاء بهم يتطلب من يفهم خطابهم ويستوعب فكرهم ويحمل رسالتهم، وهؤلاء المبدعون هم الواجهة التي نقدمها للإنسانية حين ندعوهم لرؤيتنا.



مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى