«كل الهدوء على الجبهة الغربية».. إدانة ألمانية للحرب العالمية الأولى

مارلين سلوم
لا هي المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة التي تقدم فيها السينما العالمية فيلماً يعيد فتح صفحات من الحرب العالمية الأولى، أو الثانية، لكنها المرة الأولى التي نشاهد فيها فيلماً يحكي قصة من قلب الجبهة الألمانية، ومن وجهة نظر هؤلاء الجنود كيف عاشوا مرحلة مهمة من الحرب العالمية الأولى، بتوقيع مخرج ألماني ويمثل بلده ألمانيا في المهرجانات العالمية، وصولاً إلى الأوسكار، حيث حصد حتى الآن 29 جائزة، و72 ترشيحاً، وتم ترشيحه لتسع جوائز أوسكار للدورة ال 95 المقبلة. اسم الفيلم أيضاً ليس جديداً على السينما «كل الهدوء على الجبهة الغربية»، لكن مضمونه مختلف، كأنه إدانة علنية للحرب وللقادة من الجانبين، الألماني والفرنسي، أو «الحلفاء» وتبرئة للشعب الذي سيق إلى المعركة رغماً عنه؛ فيلم فيه من القسوة الكثير، ليس سهلاً، ولا عائلياً، لما فيه من مشاهد مؤلمة وعنف ودماء وقتل، لذا لا ينصح بمشاهدته من قبل الصغار ومرهفي المشاعر.
هل يستحق فعلاً «أول كوايت أون ذا ويسترن فرونت» تسع جوائز أوسكار؟ من الناحية التقنية والفنية نعم، فهو فيلم يستحق صناعه التقدير للجهد الكبير الذي بذلوه، والحرص على الصدق في التصوير واختيار الأماكن والأزياء، والكثير من التفاصيل التي يجب التوقف عندها، لكنه من ناحية أخرى مملوء بالحزن والألم بلا أي شعلة أمل، تغصّ وأنت تشاهده، وتشعر بأن هذه المآسي الممتدة لساعتين و28 دقيقة، لا بد أن تصل بك في نهاية المطاف إلى بصيص ما، إلى بداية جديدة لهؤلاء الأبطال، أو بالأحرى من تبقى منهم..
هي المرة الثالثة التي تقدم فيها السينما فيلماً بالاسم نفسه، كلها تستند إلى رواية كتبها بلغته الأم الألمانية إريك ماريا ريمارك عام 1928 يحكي فيها ما عاشه كجندي ألماني شارك في الحرب العالمية الأولى ضمن فرقة المشاة، الفيلم الأول كان في عام 1930 للويس مايلستون، والثاني عام 1979 لديلبرت مان، أما الثالث فهو الأقوى والأعلى كلفة، ويمثل ألمانيا في حفل جوائز الأوسكار 2023 عن فئة «أفضل فيلم روائي طويل دولي». اللافت أن المخرج الألماني إدوارد بيرجر، لم يعتمد في تقديمه هذا العمل على ما سبق أن قدمته هوليوود، بل اعتمد على الرواية الأصلية فقط، وأعاد كتابة السيناريو مع ليزلي باترسون وإيان ستوكيل.
نقل الأهوال
معروف عن إريك ماريا ريمارك أنه نقل الواقع كما كان، كأنه يصوره بكل تفاصيله، وحرص على نقل أهوال المعارك وكل ما واجهه الجنود خلالها، وبعدها، والصدمات المتتالية التي قضت على أحلام هؤلاء الشبان الذين اكتشفوا أن «حلم الدفاع عن الوطن» و«احتلال فرنسا» والنصر المؤكد لم تكن سوى أوهام وخدع أغراهم بها القادة العسكريون لتحميسهم وجذب أكبر عدد من الشباب الألمان للتطوع والانخراط في صفوف العسكر على الجبهات.
إدوارد بيرجر تعامل مع القصة بواقعيتها نفسها، فاختار منطقة عسكرية ومطاراً شمال براغ لتصوير ساحة المعركة، صور في ساحة ضخمة من الطين بحجم 10 ملاعب كرة قدم، كما أتقن كل تفاصيل الأزياء والماكياج مع فريق عمل محترف، ففرض مثلاً على البطل الممثل الشاب، فيليكس كاميرر، أن يرتدي سترة وزنها 10 كجم، ويركض معها 10 كيلومترات كل يوم لعدة أشهر. تلك الواقعية تلمسها وأنت تشاهد الفيلم، لكن القسوة فيها ومراحل الصمت التي يتعمد فيها المخرج أن يشعرك بالفراغ، وكأن الوقت توقف، والصمت ما هو إلا ترقب وقلق وحيرة وحزن، هذه الأشياء وإن كانت مهمة من وجهة نظر المخرج، إلا أنها تغرقك أنت كمشاهد في كآبة فتشعر بدورك بثقل الوقت، وتتمنى لو ينتهي الفيلم سريعاً.
بداية الفيلم تأخذك إلى أرض المعركة، تحسب أن الجندي هاينريش هو البطل، تلاحقه بعينيك وتهتم لقصته، لكنه سرعان ما يسقط في أرض المعركة، هنا تكتشف أن ما عاشه هاينريش هو ملخص سريع لما سيتكرر لاحقاً، وستشاهده بتفاصيل أكثر، كأن كل الجنود الألمان يمرون بالمراحل نفسها، شباب متحمس، يغرونه بالنصر والدفاع عن الوطن، وبأن الرحلة ستكون خاطفة وسريعة، «سنذهب لاحتلال فرنسا ونعود»، يذهب فرحاً إلى أرض المعركة فيجد نفسه أسير الخوف والمعارك الشرسة، ويكتشف أن العدو قوي لا يستهان به، يعبر بدباباته فوق الخنادق الألمانية وفوق أجساد الجنود، كلهم معرضون للموت في كل لحظة، لا مجال للفرار أو للعودة إلى الوراء.
مؤلم جداً الإحساس الذي ينقله لك الفيلم، فحين يسقط هاينريش في أرض المعركة مثل كثير من زملائه، يتم تجريدهم من ملابسهم العسكرية كي يعاد تنظيفها ورفائها ثم توزيعها على أفواج من المجندين الجدد؛ يتوارثون الزي العسكري، والمصير نفسه، حتى أشكالهم تشعر بأنها تتشابه. هكذا نرى بطل الفيلم بول بيومر (فيليكس كاميرر في أول بطولة حقيقية)، ورفاقه يلتحقون بالخدمة العسكرية، منهم من جاء بعلم من والديه، ومنهم من زور توقيع والده كي يحصل على فرصة خدمة الوطن والتي كانت بالنسبة إليهم الحلم الكبير.. يستلم الزي العسكري فيكتشف وجود اسم هاينريش عليه، يحسب أنه لزميل آخر، فيأخذه منه من يتولى توزيع الملابس في المعسكر، ينتزع اسم هاينريش ويضع مكانه بول بيومر، في أول إشارة واضحة من المخرج إلى توارث المأساة من فوج إلى فوج.
أرض المعركة
لا سرد في الفيلم، ولا عودة إلى الماضي «فلاش باك»، نعرف قصص الجنود من خلال ما يحكونه لبعضهم بعضاً ولا نرى من عائلاتهم إلا بعض الصور التي يحملونها، وهنا تلاحظ أن لا وجود للمدنيين في هذا العمل، نحن معهم في أرض المعركة ونخرج منها لننتقل إلى كومبياني الفرنسية التي تم التفاوض فيها بين نائب المستشار الألماني ماتياس إرزبيرجر (دانيال بروهر)، والجنرال فيردينان فوش (تيبوت دو مونتالمبرت)، من أجل وقف الحرب وتوقيع معاهدة سلام مع الفرنسيين ومن خلالهم الحلفاء طبعاً.
يقدم «كل الهدوء على الجبهة الغربية» نماذج مختلفة من القادة الألمان، فبينما يتحلى إرزبيرجر باللين والإحساس المرهف والمشاعر الإنسانية، ويسعى جاهداً لإحلال السلام كي لا تتكبد ألمانيا المزيد من الخسائر (خسرت في هذه الحرب 17 مليون جندي، وفي هذه المعركة الأخيرة تحديداً والتي تناولها الكاتب وجاءت مباشرة قبل وأثناء توقيع المعاهدة التي أنهت الحرب الساعة 11 صباحاً في 11 /11 (نوفمبر) 1918 سقط 3 ملايين جندي ألماني).. في المقابل نرى الجنرال فريدريكس (ديفيد ستروسو) متعجرفاً يريد إشعال الحرب واحتلال فرنسا والانتصار بأي ثمن، وبينما الجنود يسرقون إوزة من مزرعة رجل فرنسي، ويشربون مياهاً موحلة وملوثة وينهشون أي لقمة يجدونها ولو يابسة، تمتد مائدته أمتاراً ويأكل بأوان فاخرة كل ما لذ وطاب ويرمي لكلبه بجانبه اللحم؛ مجرم تسبب بعناده بمقتل الكثير من الجنود حين قرر عدم الامتثال للهدنة، وأمر بمهاجمة الفرنسيين في معركة شرسة قبل أن تدق الساعة 11 ويبدأ فعلياً تنفيذ المعاهدة، لأن برأيه «لا قيمة للجندي بلا حرب».. لكن هذا لا يعني أن الكاتب انحاز للطرف الآخر، فالجنرال فوش بدا هو الآخر متعالياً، لا يلين ولا يرضى بأقل من الموافقة على الشروط التي وضعها مع شركائه، ومن جهة أخرى يرينا المخرج الطفل الفرنسي ابن صاحب المزرعة التي سرق منها الجنود إوزة مرتين، كيف يخرج خلف الجندي الألماني ويرديه برصاصة مسممة بدماء فاسدة ويواجهه بملامح باردة وعينين جاحظتين، كأنه مجرم صغير.
بول ورفاقه كاتشينسكي (ألبريشت شوتش)، كروب (أرون هيلمر)، فرانز (موريتز كلاودس) وغيرهم.. يمثلون الأبرياء العالقين في منتصف الحرب وضحايا الحروب الذين يدفعون الثمن دائماً.
[email protected]