المال “السايب”

الجمعة 5 ماي 2023 – 17:30
حين يكون الفساد استثناء يتيسّر القضاء عليه واجتثاثه من الجذور، لكن حين تكون الاستقامة والنقاء والأمانة هي الاستثناء، فإن الأمر يبدو معقدا، حتى إن الحرب على الفساد بعزيمة قوية يمكن أن تخسف بالخيمة الكبيرة التي تظلنا. بمعنى آخر، حين يكون الصدأ متشعبا في أعمدة البناء، فإن التبصّر يكون سيد الموقف حتى تزول الشعرة من العجين.
من أين نبدأ الحرب على الفساد؟ بقوانين أكثر صرامة؟ من أين لك هذا؟ التصريح بالممتلكات قبل تحمل مسؤولية ما؟ بإعطاء المجلس الأعلى للحسابات سلطات أكثر؟ كل هذا لا يقتلع الفساد من أوصال البلاد. وحتى إذا اقتلعته من مكان نبت لك في مكان آخر. بتربية المجتمع؟ من البيت أم من المدرسة أم عن طريق الإعلام أم عبر خطب الجمعة أم ماذا؟ كل ذلك لا يفيد لأن الفساد له أكثر من سبعة رؤوس.
سنة 1971 أمر الملك الحسن الثاني رحمه الله بمحاكمة مجموعة من الوزراء السابقين وبعض مدراء الشركات شبه العمومية ورجال الأعمال، بعد أن وصلت رائحة الفساد إلى أمريكا ولم يعد ممكنا مداراتها. وكان ذلك استثناء في تاريخ المغرب وجرأة نادرة وأمرا غير متوقع بتاتا. وكانت المجموعة المستهدفة تتكون من مامون الطاهري وعبد الكريم الأزرق ومحمد الجعايدي ومحمد العيماني وعبد الحميد كريم وعمر بنمسعود وناصر بلعربي ويحيى الشفشاوني وبعض اليهود المغاربة.
هذه المحاكمة زلزلت رؤوس الفساد ممن لم يحاكموا ووضع كل واحد من الفاسدين يده على قلبه أو على رأسه متوقعا القضاء المبرم. لكن، كان من الجوانب السلبية لهذا الخوف تعطّلُ الآلة الإدارية الاقتصادية وحتى السياسية، لا أحد يريد توقيع قرار ولا إقرار، الكل خائف، في مختلف ردهات الدولة المغربية، مما جعل الوزير الأول العراقي آنذاك يتدخل لعلاج الأمر بحدة أقل، هل حبا في المغرب أم عطفا على أحد الفاسدين الذي كانت تربطه به علاقة عائلية؟
وتوقف كل شيء، ورجع كل غازٍ إلى بلده وطُوي الملف “ومريضنا ما عندو باس”. وقد يكون ذلك رفقا بالبلاد، لأن انقلاب الصخيرات لا يزال طريا، وليس من المستبعد أن يعيد الكرّة عسكريون آخرون (وهو ما نفذه أوفقير في حادث الاعتداء على الطائرة الملكية) والحساسية الشعبية وصلت إلى أقصى ما يمكن احتماله، والمعارضة قوية متجذرة في الأوساط الشعبية، والرسالة وصلت إلى الفاسدين وعليهم أن يخففوا من غلوائهم استعدادا لمغرب جديد.
اليوم عندنا وزير سابق مشكوك في أمره ينتظر أن يقول القضاء كلمته فيه، ولا شك أنه لن يكون الفاسد الوحيد إذا ثبت عليه ذلك، وإنما هي جوقة واسعة من الفاسدين الذين يعرفون كيف يسددون طعنتهم لظهر الوطن دون أثر ولا دليل. كما أن الوصول إلى المعلومة غير متاحٍ لمن أراد البحث عن الحقيقة كما في الدول الديمقراطية، ويبقى الأمل في المجلس الأعلى الذي يراكم الملاحظات في شأن المؤسسات والأشخاص. لنقول في الأخير لمن اجتاحته حماسة حب الوطن واستبشر خيرا بما سيحصل غدا، وظن أن محاكمة 1971 ستتكر، إن عليه أن ينتظر تكامل الظروف ومجيء الوقت المناسب لحرب طويلة على المفسدين دون خطر على البلاد. نحن اليوم أمام أعداء الوحدة الترابية الذين ينتظرون أي تشقّق في التلاحم الوطني للتسلل منه إلى قلب المغرب.
المطلوب منا حماية المال العام من اللصوص الكبار الذين يظهرون في صفة مواطنين مخلصين يصرخون بصوت أعلى من صوت المغاربة الصادقين “الله ينصر سيدنا” بينما هم أشدُّ أعداء الملك، حين يوقعون بينه وبين شعبه بالغدر والنذالة والانحطاط الأخلاقي والنفاق “المطرز” في مشهد ضبابي لا تعرف منه الحابل من النابل. وإنا لله وإنا إليه راجعون.