أخبار العالم

حين سبقت صرخة “واتا سير” صيحة الركراكي



بعث الشاعر والقاص المغربي إدريس الواغيش رسالة إلى الراحل إدريس الخوري، قال له فيها: “لا شك في أنك سمعت مثلنا صيحة ‘سير…سير’، أطلقها الركراكي بعدك في غيابك، ثم تبعته آلاف، إن لم تكن ملايين الحناجر، رددتها في انتشاء الفوز بملاعب قطر وخارجها. قد تكون سمعتها معنا وأنت في قبرك”، مضيفا أنه “كدنا نفوز هذه المرة بكأس العالم في ‘مونديال’ قطر 2022، وأنت في غيابك الأبدي، ولولا تواطؤ الإفرنج ضدنا، لكنا قد فعلناها”.

وأضاف الواغيش في رسالته إلى الخوري: “نحن هنا كما تركتنا وتعودت على أحوالنا، فرق وشيَع وقبائل، لا أحد يطيق الآخر، أنانيون فردانيون أكثر من الرأسماليين أنفسهم”، مؤكدا أننا “نحب الحياة هنا أكثر مما نحب نفوسنا وأسرنا، عكس ما يبدو في ظاهر كتاباتنا في قصصنا وأشعارنا في قصائدنا”، مشيرا إلى أنه “لا شيء يغري بالبقاء على هذه الأرض بعد رحيلك، لا شيء عليها أو فيها يستحق البقاء”.

هذا نص الرسالة:

بّا ادريس، إن كنا قد أتعبنا هدوءك بضجيجنا، اسمح لنا هفوتنا وأنت في مرقدك هناك، أما إذا كنت قد تعبت منا ومن هذه الأرض، واخترت الرحيل طواعية، فقد اتخذت قرارا صائبا. أتذكر الآن، وقد رحلت عنا: صوتك، صمتك وموتك. أخبرك أن الكتاب والمثقفين هنا أصبحوا لا يطيقون بعضهم في المدينة الواحدة، ولا يتراءون حتى في الحي الواحد. أصبحوا عدائيين في صمتهم ونميمتهم أكثر من ذي قبل، ومما كنت تعرفه عنهم وفيهم. ولذلك، لا تنزعج يا صاحبي، عشت ساحرا في كتاباتك، جميلا مزعجا في مجالسك، منشطرا بين العدوتين، هدوء في الرباط وصخب الصيادين وأصحاب قوارب نهر أبي رقراق في سلا، حياة ضاجة في الدار البيضاء وتعاسة المستضعفين في البيداء الكبرى، كما يسميها العم أحمد بوزفور. أنا مثلك منشطر يا صاحبي أو يزيد قليلا، وجدتني صدفة مشتتا في انتمائي بين “أيلة” قريتي ومدينتين متقاربتين، أتحدث عن أرياف تاونات وأنهارها، تفضحني أكثر من ثلاثين سنة قضيتها في فاس، أجهر في الإعلان عن انتمائي إلى مدينة أسكنها، أجدني أمام مكناس تسر لي بشهادة ميلاد مراهقتي الأولى وابنتي شهرزاد كبرى أبنائي.

لا شك في أنك سمعت مثلنا صيحة “سير…سير”، أطلقها الركراكي بعدك في غيابك، ثم تبعته آلاف، إن لم تكن ملايين الحناجر، رددتها في انتشاء الفوز بملاعب قطر وخارجها. قد تكون سمعتها معنا وأنت في قبرك، وربما قبلنا بسنوات، وسرت مطمئنا غير مبال إلى حيث أنت. لم أسمع منك مثل باقي القصاصين صرختك المميزة “واتا…سير”، وهي تخرج مدوية من شفتيك، لولا أن ذكرني بها صديقنا المشترك الإعلامي محمد العلمي من واشنطن. وكدنا أن نصدق انتصارنا ونجري وراء انتشائنا، ولكن انتهت الحكاية قبل أن تبدأ فصولها، وتوقف الكلام. وجدنا أنفسنا وسط خضم فضيحة في أقل من شهر، وأن صيحات “سير…سير” لم تدفعنا إلى الأمام، ولكن تفاجأنا أننا نسير” مارش… أريير”.

عشت كل المفارقات في حياتك، صادقا كنت في إنسانيتك، جارحت صادما في هجوك وجواباتك، مستفزا في صراحتك، مرغوبا مكروها في الآن نفسه، مستبدا لطيفا في جلساتك، جادا هازلا، منشطرا إلى نصفيك.

لم يسلم أحد من سطوة لسانك، كما لم تسلم أنت بدورك من لسان أحد. كنت منشطرا إلى اثنين في واحد، كلاكما إدريس المازح، والخوري الجاد الجارح يعيشان في جسد واحد، كلاكما إدريس والخوري اعتمدا التسفيه والفضح والتجريح والسخرية من الناس ومن الحياة. كنت أكثرنا صدقا، تأتينا في الصباح فاتحا مناوشا بجُرأة قلم القاص والسارد من الهامش، وتذهب إلى مرقدك مسالما معافيا في آخر الليل، وقد شربت ودخنت من السجائر ما يكفي لتدمير عشرات الأجساد.

القصة بعد رحيلك مع زفزاف بقيت يا بّا إدريس يتيمة، فقدت أحد أركانها، ولكن من حسن حظها أن أطال الله في عمر العم أحمد بوزفور، وجدت فيه عمًّا حنونا، وإلا بقيت أكثر يتما وتعاسة مما كانت عليه قبل رحيلك. وحتى لو أنك عمرت بيننا أكثر مما عشت، لم تكن لتضيف شيئا جديدا إلى لعنة الكتابة، اللعنة هي نفسها، بل ازدادت حدة وشراسة، أصبحت أكبر من أن يحتويها قلم أو تضيف إليها البهارات الهندية طعما. أحسن ما فعلت في حياتك، نعيت نفسك بنفسك حينما أحسست بقرب رحيلك، وأنت ما زلت على قيد الحياة.

أتعرف يا بّا إدريس، كدنا نفوز هذه المرة بكأس العالم في “مونديال” قطر 2022، وأنت في غيابك الأبدي، ولولا تواطؤ الإفرنج ضدنا لكنا قد فعلناها. ومن كثرة تعاستنا في الحياة بعد رحيلك، وتوالي الهزائم علينا، خرجنا نتدافع إلى الشوارع فرحين، كما لم نفرح من قبل، وكما يفعل الأطفال في صباحات العيد. نصرخ جميعنا، ونردد الشعارات شماتة في الإفرنج وفي الكآبة والتعاسة. ولأننا أيضا لم نكن متعودين على الفرح، سئم منا الفرح سريعا، وغاب عن شوارعنا، لأن أصحاب المعالي والسعادة والوزارة سرقوا فرحنا، في غفلة منا، كما عهدك بهم. اغتصبوا سعادتنا البكر وتركوها في العراء، وعدنا سريعا إلى حياتنا المُملة، نعيش تعاستنا كما اعتدنا عليها مع غلاء الأسعار والمعيشة. ولم نكن نعرف أن خروجنا للفرح لم يكن سوى خروج المغفلين للتهافت على اقتناص لحظات بهجة أو فرحة طائشة، قبل أن تنفلت من بين أيدينا، أو تطير كما يفعل أي طائر أو حمامة. ولذلك، لا تصدق محمود درويش أن “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”، كل شيء يستحق الكتابة، ولكن لا شيء على هذه الأرض يستحق الحياة.

كنت كاتبا صحافيا وشاعرا ثم قاصا مقتدرا، ومن نعاك بعد غيابك، صدقا أو نفاقا ورياء، أضاع مداد حروفه؛ لأنك كنت أكثرنا صدقا، لم تكن في حاجة إلى كاتب ينعيك أو شاعر يرثيك. نعيت نفسك بنفسك، واسترحت. نعيك لنفسك، وأنت حي بيننا، كان أكثر صدقا من قصائد الشعراء وتراتيل الفقهاء، أقوى مما سيقوله فيك شاعر مبتدئ بعدك. قولك فيك كان أجمل وأصدق من كل القصائد؛ لأن القصاصين، يا صاحبي، أكثر صدقا ونبوءة من كل الشعراء. هل تصدق؟ الشعر في أيامنا أصبح سلعة تباع وتشترى، يا صديقا كنت لي، يغزوه الانسياب وتنخر جسمه غزارة الانزياح، وهو الأقوى على درع مكر المكائد. الشعر أصبح أكثر كذبا واحتيالا على وجه القصيدة، لم يعد كما قرأناه بصدق ونحن نتمتع بكامل براءتنا، ونحن تلاميذ في المدارس أو طلاب في الجامعات. لم نكن نعرف أنه “لا يقين في الشعر”، كما يقول عنه الشاعر العراف محمد السرغيني.

لا تندم يا صديقي الآن على رحيلك، وقد رحلت، أن كنت قاصا، أصبح الشعراء بعدك كمشة لوبيات، والشعر ريع وشجارات. كتابة القصة كانت واحدة من نعم الحياة عليك، وربما إحدى لعناتها، وأنت حي يرزق بيننا أو يعاني من قلة الرزق، لا أدري. أقصد نعمة الكتابة علينا جميعا، كتابا وشعراء. أذكر أننا التقينا في أكثر من مناسبة، ولكن في كل مرة كنت بخيلا شحيحا علي في كلامك، كما لو أن ثقبا في طبقة الأوزون أثر على سمع أذنيك أو شللا مفاجئا وتصلبا أصاب لسانك، وإذا بقلمك يجف ومداد كلماتك يقل. التقينا كثيرا وتحدثنا قليلا، رغم أننا كنا نتشابه في الطباع والأسماء والانتماء.

تكلمنا في أكثر من مناسبة، ولم يسعفنا الكلام، اقتصر حديثنا على الحياة العامة والأدب، كما لو أننا كنا تحت مجهر رجال المخابرات. كان كلامنا سطحيا وعابرا، مثلما كان عبورك سريعا من الحياة إلى الموت، ومن الشعر إلى الصحافة، ومن الصحافة إلى القصة. ارتأيت مع أحمد بوزفور ومحمد زفزاف أن يكون مقامكم الأفضل في فردوس القصة، تلمحون مرة وتفصحون في أخرى عن نواياكم بيُسر وسهولة، وبلغة واقعنا التعيس ومعيشنا الأليم. كنت ترتاح مثل كل القصاصين في القصة من لغو الشعر، وتحيا فيها حياة مختلفة داخل عباءة المخلصين للقصة.

لا تقلق يا بّا إدريس هناك، نحن هنا كما تركتنا وتعودت على أحوالنا، فرق وشيَع وقبائل، لا أحد يطيق الآخر، أنانيون فردانيون أكثر من الرأسماليين أنفسهم. أصبحنا أكثر كرها لبعضنا وتعصبا لأفكارنا كما تركتنا، وكما لو أنك كنت معنا وبيننا.

وننسى حقيقتنا، نحن مجرد أرقام تنتظر العبور إلى الضفة الأخرى يا صاحبي، سنلتحق بك مكرهين لا طائعين؛ لأننا نحب الحياة هنا أكثر مما نحب نفوسنا وأسرنا، عكس ما يبدو في ظاهر كتاباتنا في قصصنا وأشعارنا في قصائدنا. ولكن ما يخفف عنا، هو أن عبورنا نحن الكتاب والشعراء، سيكون أكثر خفة وأقل ضررا، لن نحمل معنا أكثر من مجاميع قصصنا ودواوين أشعارنا، ولن نتأسف مثل الآخرين على أرصدة نتركها هنا للآخرين وراء أظهرنا في البنوك. لا ضَيْعات لنا هنا، لا عقارات في ملكيتنا أو في ملكية نسائنا وأبنائنا وبناتنا. ليس لنا هنا، وأنت العارف بحالنا، فللا في الأحياء الراقية بفاس ومراكش، لا شقق تطل على كورنيشات البحر المتوسط في طنجة وتطوان، لا شاليهات على رمال المحيط الأطلسي بأحياء الهرهورة الراقية في الرباط وعين الذئاب ومارينا الدار البيضاء أو أكادير. ومن يعتبرون أنفسهم كتابا وشعراء كبارا ومشهورين، سيلفون قصائدهم تحت آباطهم في صمت، ويغادرون آسفين على غرورهم، يتبعهم إلى مثواهم الأخير ضجيج قليل من المريدين ودموع ملفوفة في قصائد وكتابات طائشة، ومن على شاكلتهم من كبار الإقطاعيين والأغنياء، تقام لهم حفلات صاخبة بالمديح والسماع تليق بغيابهم عن ثرواتهم، وفي الأخير سيجدون أنفسهم بجوارنا، مثلهم مثلنا، مجرد أرقام جامدة يملأها من يليهم بعد مماتهم، مثل ما يقع في أرقام التأجير بأسلاك الوظيفة العمومية، وتسلسل أرقام البطاقات الوطنية في حياة عباد الله الصالحين وغير الصالحين من السراق والفاسدين المرتشين.

لا تصدق محمود درويش يا بّا إدريس أن فوق هذه الأرض ما يستحق الحياة، أعرف أنك لم تتأثر مثلنا بعناوين قصائده، كما فعلنا نحن في البدايات.

الهواء هنا أكثر رطوبة يا صاحبي والحياة غالية قاسية، موجعة وتكاد تكون مُعجزة. لا شيء يغري بالبقاء على هذه الأرض بعد رحيلك، لا شيء عليها أو فيها يستحق البقاء. درويش كان قصده أن يخفف من وطأة مرض أعجز أطباء الإفرنج، وأحاط دون رحمة بجسده العليل، وحين يئس من شفائه وما آلت إليه أوضاع فلسطين، وهو ملقى على سرير المرض بأحد مستشفيات باريس، كتب هذه الجملة الشعرية كي يزرع الأمل في المحبطين. الحياة هنا متعبة يا صديقي إدريس، بئيسة كما كتبت عنها بصدق في قصصك، عكس ما صوره لنا الشعراء الرومانسيون والحالمون في قصائدهم.

جئت إلينا تحمل لقبا مستعارا، هو ليس لك، كما يحمل الكثيرون منا ألقابهم عنوة. وجدت نفسك تحمل لقب “الخوري”، لا أنت له ولا هو لك. ولكن الجميل فيك، أنك عشت تحمله راضيا بقدرك، ساخرا من واقع “كازابلانكا” الذي لم يكن يختلف كثيرا عن واقعك، أقصد واقعنا، إلى حد القسوة. تشبثت بمبادئ آمنت بها، ولم تخنها كما فعل غيرك من سياسيين وصحافيين وشعراء وأدباء. لم تخذل الفقراء الغارقين في معاناة فقرهم، وكنت المناصر والمؤازر لهم في كتاباتك وقصصك. خضت حروبا قسرية دفاعا عن نفسك أو طواعية في مواجهة الطغاة المهووسين بعظمة الجنون. انتصرت في بعضها وانهزمت في كثير منها، وتحملت عواقب الهزائم وحدك. وفي الأخير، غادرتنا مرفوع الرأس، حاملا معك كبرياء القصاصين، محلقا مثل نسر إفريقي. ربحت أصدقاء مخلصين في عالم متحول، يتغير كل يوما إلى الأسوأ، رغم ما نراه من بهرجة. والآن قبل أن أودعك، نم قرير العين يا صاحبي، وليرحمك الرحمن إلى أن نلتقي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى