أخبار العالم

إصدار جديد يلامس منظومة التعمير و”العمارة الكولونيالية” في زمن الحماية


دوما كان المكان منذ القدم بأثر معبر في طبع فكر وهوية ووعي الإنسان بوجوده، ولعل بقدر ما كان هذا الأخير بفعل مؤثثا مهذبا لفضاء عيشه بإضفاء خصائصه الإنسانية عليه، بقدر ما اعتمد ما بلغه من تطور مهارات عبر الزمن ومن ثمة ما حصل من تطويع منه لعناصر موطنه ومحيطه، وهو ما يمكن تلمسه من خلال ما هناك من تجليات طبعت مظاهر استقراره على مر التاريخ. ولا شك أن عمارة الإنسان تعد من أقدم أشكال علاقته بالمكان، تلك التي ترمز لتطور آليات تثقيف الطبيعة، ولِما بحاجة إليه من مأوى واحتماء من أخطار طبيعة وجبروت اعتداء. علما أن عمارة الإنسان تطورت في تعبيرها مع تطور المجتمعات، فأضحت محيطا بيئيا حيويا هيئه لممارسة أنشطته المادية والروحية، بداية بما جادت به الطبيعة من أشكال أولى من قبيل كهوف ومغارات، فضلا عن مآو رافقت تنقلاته بحثا عن سبل عيشه، وقد تدرجت بين مخابئ طبيعية وخيام نسجت وغيرها، انتهاء بأشكال سكن صلب تشكل من تثاقف حجارة وطين وجير وغيره من المواد، التي تطورت مع تطور تقنيات استغلاله لموارد الطبيعة وتطويعها لصالحه. ولعل من جملة ما تعكسه وتجسده عمارة الإنسان مظاهر حضارات إنسانية، مع ما ميزها من درجة قوة ورقي فن وفكر وأدب ما تعاقب من أمم عبر أزمة وأمكنة.

بهذه الإشارات وغيرها، استهل الدكتور مصطفى الكثيري، المندوب السامي لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، تقديما رفيعا لإصدار موسوم بـ”مدينة الرباط ومدارس التعمير العصري تحت نظام الحماية الفرنسية بالمغرب”، لمؤلفه الدكتور خاليد عيش، الباحث والإطار بمؤسسة أرشيف المغرب بالرباط. قبل أن ينتقل في تقديمه للحديث عما تختزله مدينة الرباط عاصمة المغرب من تاريخ وتراث يخص المجال الذي احتضنها، مضيفا أن ما هناك من معالم معمارية هي إفراز طبيعي لتفاعلات حضارية عبر الزمن حتى الآن. وأن ما هناك من مدن تاريخية بمنظوماتها الحضرية، ليست تراثا فحسب بل مرجعا ثمينا بقدر كبير من الأهمية لتقويم مدننا الحالية وكذا الاستفادة من تجاربها لتجاوز إكراهات حضرية باتت قائمة وتحقيق متطلبات راهن عمارة وعمران.

ولعل موضوع هذا الإصدار التاريخي الذي صدر حديثا “مدينة الرباط ومدارس التعمير العصري تحت نظام الحماية الفرنسية بالمغرب”، وقد جاء بحوالي أربعمائة صفحة من قطع متوسط ضمن منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، يعالج إشكالية التعمير بالمغرب زمن الحماية الفرنسية، معتبرا التجربة التعميرية الكولونيالية مرجعا مهما يمكن للمهيأ الحضري الاستئناس به، وأخذ منه ما قد يساعد على تجاوز إشكالات آنية مطروحة في مجال التعمير وتهيئة المدن. وعيا بكون العمارة الكولونيالية هي إضافة لا تقل أهمية عما هناك من تراكمات سابقة عنها في تجارب التعمير التي تطورت على أرض المغرب، والتي لا شك أنها ساهمت في إغناء التراث المعماري والعمراني المادي والرمزي الذي تزخر به البلاد.

إن الحديث عن المدينة المغربية زمن الحماية يعني استحضار مرحلة جديدة دخلها شكل التمدين، وقد طبعتها مرجعيات حديثة على مستوى تخطيط مدن البلاد وتهيئة مجالاتها، تلك التي اختلفت تماما عما كان قائما من أشكال عمران، وفق ما جاء في مقدمة مؤطرة للكتاب أورد فيها الأستاذ خاليد عيش، أنه إلى غاية مطلع القرن الماضي لم يكن بالمغرب سوى نمط مدن انتمت منظوماتها الحضرية لنموذج المدينة العربية الإسلامية، تلك التي ارتبطت بقيام نظام الحكم الإسلامي مع دولة الأدارسة. حيث سار منهج تخطيطها ومكوناتها بتوافق تام مع مرجعية تعمير إسلامي أصيل، وغالبا ما تميز المجال الحضري بالمغرب بأنه دار الإسلام ومكان وجوده وحمايته. مع أهمية الإشارة هنا إلى أن مدن المغرب حافظت على هذا النموذج إلى غاية زمن الحماية 1912، الفترة التي جسدت محطة حاسمة في توقف اعتماد المرجعية الإسلامية في بناء المدن، وبداية عمل بمبادئ غربية حديثة تخص شأن التعمير والبناء- يضيف-. بحيث يمكن اعتبار المدن الجديدة انتقالا طبيعيا في مسار التمدن بالمغرب باعتبار وجود المدينة من قبل، فضلا عن أهمية موروثها الحضاري على مستوى المعمار والعمران.

ومن جملة ما أثاره صاحب المؤلف ايضا، ما حصل من تطور في علم التعمير وتهيئة المدن خلال هذه الفترة على مستوى الغرب عموما ودول أوروبا خاصة، مشيرا إلى أن مطلع القرن الماضي شهد بروز عدد من المهندسين حاولوا إدخال تقنيات وأشكال عمران ومعمار جديدة. وعليه -يقول- إن البحث في موضوع مدن المغرب الجديدة زمن الحماية والاستقصاء من أجل فهم بنياتها، من المهم أن يستمد أهميته من وضعها داخل إطار التعمير العالمي، وما عرفه من تحول انبنى على أسس فكرية جسدتها أشكال مادية على مستوى المجال الحضري، بحيث شكلت المدينة الحديثة فضاء تطورت من داخله اقتصاديات جديدة، وحلا لمشاكل تهيئة بمجالات عدة أطرها علم التعمير الذي قام على أصول فكرية تجلت مظاهره في مدارس موجهة للتعمير الحديث.

ويذكر الأستاذ خاليد عيش في تقديمه أن رغم أهمية الدراسات التي تناولت المدينة المغربية زمن الحماية خلال القرن الماضي، فإن ملامستها وتناولها لِما هو نظري موجه للتعمير بالمغرب ظل باهتا إن لم نقل غائبا. مع ما سُجل من غلبة دراسات بطابع جغرافي فضلا عن منوغرافيات همت جملة مدن من قبيل فاس والدار البيضاء وطنجة والرباط… في حين تميزت فترة مغرب الاستقلال بدراسات مغربية تميزت هي الأخرى بطابع جغرافي في شقه البشري، وغالبا ما عادت فيما تناولته حول المدينة المغربية لفترة الحماية من خلال توطؤاتها، فضلا عن دراسات ذات تقني وقد اهتمت بالبحث في أصول مشاكل التعمير، ومقابل هذا وذاك توجهت دراسات تاريخية عدة حول المدينة المغربية زمن الحماية، لتسليط الضوء على المؤسسات البلدية وآليات اشتغالها وتدبيرها لشؤون المدينة.

يذكر أن من خلال ما وقف عليه الباحث من دراسات مغربية حول المدينة المغربية زمن الحماية، أبان ما هناك من غياب دراسات تقعيدية تهم علم التعمير الحديث في أصوله ومرجعياته النظرية ومدارسه المؤطرة، تلك التي كانت وراء ما هناك من صورة متوارثة لمشهد المغرب الحضري الذي خلفه نظام الحماية الفرنسية، وقد استمر في توجيه تعمير مدن مغرب الاستقلال. مشيرا إلى أن مما يعانيه المغرب الآن تعميريا هناك غياب مرجعية واضحة لمشاريع البلاد العمرانية، مع ما ينبغي من مراعاة لتمثلات المغاربة تجاه الفضاء الحضري.

وعلى وقع كل هذا وذاك من القراءة حول التعمير والمدينة المغربية، يشير الباحث لِما هناك من اختلاف في أشكال التدخل التي تخص المجال الحضري مع تعدد الرؤى لدى فاعلين في ميدان التعمير، بين فكر محافظ يروم إعادة إنتاج الإنسان المغربي بهويته العربية الإسلامية، من خلال الحفاظ على مدن عتيقة ورد الاعتبار لكل ما هو أصيل فيها من مكونات عمرانية. وبين فكر يروم ما هو حديث معتبرا أهمية شروط الراحة في بناء المدن والاستفادة مما هناك من تقنيات واعتبارات جديدة. ولعل مقاربة الأستاذ عيش لموضوع “مدينة الرباط ومدارس التعمير العصري تحت نظام الحماية الفرنسية بالمغرب”، انطلق من إشكال آني أشار إلى أنه يجد أجوبته وحلوله في ما هناك من أصول تاريخية. وهذه الأجوبة تخص توضيح الرؤى لدى الفاعلين والمهتمين بالتمدين، حول مرجعية التعمير التي وجهت بناء المدن المغربية زمن الحماية، مع تلمس نقاط قوتها من تخطيط وإعداد للمجال الحضري فضلا عن وقوف على مواطن إخفاقاتها أيضا، لتمكين المهيء الحضري من مرجعية نظرية سديدة لإقامة تعمير عقلاني متجانس، من شأنه تجنب أخطاء الماضي وامتلاك صورة مسبقة في اعتماد نماذج استشرافية لمدن المغرب.

وقد خلص الأستاذ خاليد عيش إلى أن مغرب الاستقلال واجه إشكالات حقيقية على مستوى تعميره وسياسات إعداد ترابه الوطني خصوصا تهيئة المدن المغربية وتخطيطها، مشيرا لِما حصل من تباين أفكار ونتائج دراسات حول مدن المغرب العتيقة، بين تدخلات تقول بالمحافظة عليها باعتبارها مجالا تاريخيا يجب الحفاظ عليه في شموليته كتراث، وبين توجهات اعتبرت هذه المدن مجالا اقتصاديا بديناميات موفرة للشغل وجامعة لثروات ومساهمة في تنشيط دورة اقتصاد المدينة. وعليه، ما ارتأته من أهمية تدخل في مجال المدن المغربية الأصيل وإعداده وفق اعتبارات جديدة مع إدماجه في النسيج العام الحضري.

ولعل ضمن هذا الإطار التعميري والإشكالات، جاءت مقاربة الأستاذ خاليد عيش للموضوع مع بحثه في أصول ونظريات التعمير المعاصر بالمغرب وتقريب الفاعلين من مدارسها وأفكارها العامة. مشيرا إلى أن المغرب عرف علم التعمير الحديث زمن الحماية مع دخول الفرنسيين، وما حملوه من أفكار مدارس واتجاهات تعميرية، مضيفا أن دراسته “مدينة الرباط ومدارس التعمير العصري تحت نظام الحماية الفرنسية بالمغرب”، توجهت بعنايتها لمواكبة ما هناك من مدارس تعميرية مع رصد جوانب نجاحاتها وإخفاقاتها، فضلا عن اعتماد مقارنة من شأنها تمكين المهيأ الحضري من قراءة نتائج مسبقة قد تفضي لاعتماد منهجية مدرسة ما.

وكان مشهد مدينة الرباط الحضري زمن الحماية، مساحة لوقوف الباحث على ما طورته مدارس التعمير التي تعاقبت في إشرافها على المجال خلال هذه الفترة. مشيرا إلى أن اعتماد مدرسة تعميرية ما والانتقال من اتجاه لآخر، فرضته ظرفيات اقتصادية واجتماعية وسياسية عدة شهدها مغرب الحماية، مسجلا ما هناك من مدرسة محافظة في تهيئة المدن المغربية، وما حصل من تصاميم بناء وتوسيع مدن ارتبط بفترة المقيم العام ليوطي، وقد أطرتها سياسة ما عرف بالأهلية. ويذكر أن من خلال نموذج “مدينة الرباط”، تتبين ملامح المدرسة التعميرية المحافظة في إبقائها على استمرار نمط عمران عام على المستوى الهندسي بين مجالي المدينة (أصيل – جديد)، فيما اختلف ما هو تخطيط استجابة لشروط عصرية تطلبها بناء مدن جديدة. سياق أورد فيه الباحث أن المدرسة المحافظة توقفت مع رحيل ليوطي ليدخل المغرب فترة فراغ في سياسة التعمير، بقدر ما اعتبرها انتقالية بقدر ما شهدته من مشاكل تزامنت مع نمو ديموغرافي وتزايد ساكنة مدن.

ومن ثمة ما حصل من انحراف عن مخططات تعمير فترة ليوطي ومن أزمة حضرية، كانت وراء دخول أفكار تعميرية تقدمية من خلال المهندس “م.إيكوشار” الذي انتقل بالمغرب من سياسة حفاظ على مدن قائمة، إلى اهتمام بالإنسان باعتباره عنصرا أساسيا في عمليات التهيئة وإعداد وتعمير المدن عبر جملة أفكار وإجراءات تدبيرية وقراءات وظيفية مجالية. تلك التي على إيقاعها لم تعد الرباط مدينة حديقة -يضيف-، خصوصا الأحياء المقامة حديثا ضمن الاقتصاد في استغلال الاحتياطي العقاري والاتجاه لمشاريع سكن اقتصادي واجتماعي، حيث ظهرت أحياء سكنية كبرى كما بالنسبة لحي يعقوب المنصور، وكذا تصميم تهيئة المدينة الأصيلة وإعادة إدماجها داخل نسيج المدينة التي عرفت خلال هذه الفترة بداية حل أزمة سكن الأوروبيين. ومع كل هذا وذاك شهدت هندسة الرباط المعمارية تحولات جذرية تم فيها التخلي عن الهندسة المحلية لفائدة هندسة معمارية أوروبية، بحيث غابت المرجعية الهندسية الإسلامية وحلت محلها قواعد الهندسة الحديثة الغربية.

يبقى بقدر ما توزع عليه كتاب “مدينة الرباط ومدارس التعمير العصري تحت نظام الحماية الفرنسية بالمغرب” للأستاذ خاليد عيش من فصول ومباحث متكاملة، وما تأسس عليه من قاعدة نصوص وببليوغرافيا جاءت في سوادها الأعظم باللغتين الفرنسية والإنجليزية بحكم طبيعة الموضوع وتيمته التاريخية والمجالية، فضلا عن وعاء وثائق تعمير واسع وأرشيف هام ذي صلة. بقدر ما جاء هذا العمل البحثي الأكاديمي في بعده التاريخي المجالي بمساحة تركيز ورصد واستجلاء لجميع ما هناك من عناصر مكونة للتعمير الكولونيالي بالمغرب زمن الحماية، ناهيك عما طبعه من تحليل عميق استمد قوته من ذكاء مقاربة لما هو ترابي خاص بمدينة الرباط، ومما تمكن منه وتملكه الباحث من معطيات ذات علاقة بمجال التعمير والتهيئة الحضرية والحماية والاعتناء بالتراث التاريخي، عندما انطلق من نظريات مؤسسة لمفهوم التعمير ومن مظاهرها على مستوى مدارس موجهة. وعليه، يسجل لهذا الإصدار الذي عزز نصوص الخزانة المغربية الرصينة في هذا المجال، ما طبعه من إضافة لفائدة وعاء الدراسات التعميرية التاريخية المجالية المغربية، وما طبعه أيضا من نهج بحث وتنقيب ورصد وتحليل وما احتواه من مادة زاخرة بالمعطيات جعلته مرجعا بقدر عال من الأهمية حول موضوع التعمير بالمغرب عموما وبمدينة الرباط زمن الحماية تحديدا. ولعل بقدر ما تأسس عليه كتاب “مدينة الرباط ومدارس التعمير العصري تحت نظام الحماية الفرنسية بالمغرب” للأستاذ خاليد عيش من رصيد وثائقي ومن سبق مقاربة لجوانب لم تطرق من قبل، بقدر ما ملأ بياضا كان قائما موفرا نصا بحثيا محفزا للباحثين والدارسين المهتمين بالمجال رافعا بتوقيع الأكاديمي من شأن نصوص خزانة بلاد وعباد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى