أخبار العالم

تتويج دولي يُنصف معلمة “رأس سبارطيل” بلقب “المنارة التراثية لسنة 2023”



كتب عبد السلام انويكة، عن مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث، مقالا حول تتويج منارة “رأس سبارطيل” البحرية بطنجة بلقب المنارة التراثية البحرية لسنة 2023، من طرف الجمعية الدولية للتشوير البحري، “لتكون هذه المعلمة المغربية المنارة المغاربية والعربية والإفريقية الأولى والوحيدة التي بلغت هذه المرتبة والتتويج واللقب معا”، مشيرا إلى أن “التتويج جرى إثر انعقاد مجلس الجمعية المذكورة في دورته السادسة والسبعين بالبرازيل في الفترة ما بين 12 و16 دجنبر الجاري”.

هذا نص المقال:

بهيبة وشموخ تطل منذ أزيد من قرن ونصف من الزمن بعلو ثلاثمائة وخمسة عشر مترا، على ملتقى بحرين أسطوريين في زمن المغرب، معلمة بحرية بهندسة وعمارة خاصة كانت بصدى دولي تشويري رائد بأقصى شمال البلاد، حيث البحر المتوسط ومضيق جبل طارق وطنجة وما هو عليه موقع هذه الأخيرة من إحالات شاهدة على روح مكان وعبق زمن وثقافة وحضارة إنسان، فضلا عن سحر مساحة كهوف ممتدة في رمزيتها من قبيل هرقل.

تلك هي منارة “رأس سبارطيل”، التي تضفي وقعاً ومسحة خاصة بسلطتها الرمزية التاريخية على جوارها من بر وبحر معا، باعتبارها واحدة من أقدم منارات العالم وأول منارة بحرية مغربية. وقد شهدت جملة تغيرات منذ إحداثها، فضلا عن إضافات بعد فرض الحماية على البلاد، من قبيل تثبيت جهاز بصري لتوفير نظام متكامل لعدسة ضوئية بسعة كبرى، فضلا عن جهاز صوتي يستعمل استثناء في أجواء غائمة وآخر مساعد لسفن عابرة على تحديد موقعها. علما أن قصة هذه المعلمة البحرية المغربية تعود إلى سنة ألف وثمانمائة وستين إثر حادثة غرق سفينة غير بعيد عن طنجة كان ضحيتها مائتين وخمسين قتيلا، لعلها الواقعة التي دفعت قوى بحرية دولية كبرى آنذاك إلى مطالبة المغرب ببناء منارة في هذا المكان، وهو في ظرفية حرجة منتصف القرن التاسع عشر إثر معركتي إيسلي وتطوان، اللتين تم استغلال ما انتهتا إليه للضغط عليه من أجل توفير أمن ملاحة بحرية دولية بمضيق جبل طارق، عبر بناء هذه المنارة على سواحله الغربية.

هكذا كانت المسألة والقضية بتدخل دولي من قِبل قناصل طنجة، خاصة قناصل بريطانيا والولايات المتحدة ثم فرنسا، التي كان لديها حرص خاص على هذا المطلب لِما شهدته تجارتها خلال هذه الفترة من اتساع عبر البحر الأبيض المتوسط بشكل تزامن مع حفر قناة السويس. وقد اضطر المخزن المغربي إلى قبول إحداث هذه المنارة مطلع ستينيات القرن التاسع عشر، وقد استغرق بناؤها ثلاث سنوات تحت إشراف مهندس فرنسي يدعى فرانسوا ليونس رينو، وكان بحكم تكوينه يتمتع بخبرة علمية واسعة في بناء مثل هذه المنشآت البحرية، سواء داخل فرنسا أو خارجها. وقد أسند بدوره بناءها إلى المهندس ليون جاكي، الذي وضع لها تصميما منسجما مع طبيعة عمارة المغرب التاريخية، وجعلها ببرج مربع مع رواق وفانوس بارتفاع أربعة وعشرين متراً.

وكان الانتهاء من أشغال معلمة “رأس سبارطيل” في خريف ألف وثمانمائة وأربعة وستين، ليبدأ نشاطها وتدبيرها من قِبل هيئة دبلوماسية جمعت الولايات المتحدة وفرنسا وإنجلترا وإسبانيا وإيطاليا وبلجيكا وهولاندا والبرتغال والنمسا ثم السويد، بمقتضى اتفاقية دولية من سبعة فصول تم توقيعها في ربيع ألف وثمانمائة وخمسة وستين، وقد نصت على أن إحداث المنارة جاء بدافع إنساني، مع إسناد إدارتها إلى ممثلي الدول المتعاقدة طيلة المدة المشمولة بصلاحيتها، على أن لا يلحق هذا أي مساس بسيادة السلطان ولا يرفع أي علم على البرج إلا العلم المغربي .فضلا عما تضمنته الاتفاقية من تحمل الدول المتعاقدة نفقات من خلال مساهمة سنوية مادام المغرب لم يكن يتوفر على أسطول بحري، مع تعهده بالمساهمة في نفقاتها وبتكلفة إصلاحها وإعادة بنائها عند الاقتضاء عندما يصبح متوفرا على أسطول حربي وتجاري. وكان مما جاء في هذه الاتفاقية أيضا التزام سلطان المغرب بأمن وسلامة هذه المنارة من خلال تعيين هيئة حراسة من قائد وأربعة جنود، مع توفير وسائل صيانة وضمان سلامة حراس ومستخدمين بها في حالة الحرب، سواء كانت داخلية او خارجية، فضلا عن احترام الدول المتعاقدة حياد هذه المنارة والالتزام بحصتها في حالة اندلاع حرب فيما بينها أو بين واحدة منها وبين المغرب.

وفي علاقة منارة طنجة هذه بما هي تطورات تاريخية كان عليها الحوض الغربي للبحر المتوسط ومعه مضيق جبل طارق، من المفيد الإشارة الى أنه في إطار مصالح الولايات المتحدة الأمريكية الاستراتيجية وما يمكن أن تسهم به من أدوار في المغرب، وبعدما شاركت في مؤتمر الجزيرة الخضراء وأدركت ما كان هناك من مناورات وصراعات خفية بين دول مشاركة طامعة في الانفراد به، اقترحت جملة أمور منها- فضلا عن إحداث شرطة مغربية تابعة للمجلس الصحي، وهو ما رفضته فرنسا تجنبا منها تدويل القضية المغربية- مقترح بناء منارة “رأس سبارطيل”، التي كانت تعرف بـ”الرأس الأشقر” ربما في علاقة بموقع اشقار البحري الشهير بطنجة من جهة الغرب. علما أنه رغم قلة السفن الأمريكية التي كانت تزور الموانئ المغربية، فإن الدبلوماسية الأمريكية كانت ترى في المغرب مجال عبور لتجارتها في علاقتها بالبحر الأبيض المتوسط. ومن هنا جاءت فكرة بناء المنارة لتوجيه السفن وتسهيل دخولها إلى طنجة زمن حكم السلطان مولاي سليمان، وهي الفكرة التي بقدر ما أثارت شكا واسعا حول نوايا الولايات المتحدة، بقدر ما تعززت بدعم إنجليزي مطلع خمسينيات القرن التاسع عشر، خاصة عندما غرقت سفينة إنجليزية جنوب رأس سبارطيل بطنجة. هكذا جاء إعلان بناء المنارة بعد توقيع اتفاقية مغربية إسبانية مطلع ستينيات القرن التاسع عشر، وقد تضمنت في أحد بنودها انعدام الإنارة البحرية بالشواطئ الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، وأن على سلطان المغرب المساهمة في تأمين الملاحة والتجارة وتجنب أخطارها، من خلال بناء هذه المنشأة مع التزام بالمحافظة عليها وإيقادها.

يذكر أن بداية بناء هذه المنارة من قبل الحكومة المغربية كانت سنة ألف وثمانمائة وواحد وستين إثر اجتماع ممثلي الدول الأجنبية بطنجة. وقد انتهى إلى اتفاقية مغربية إسبانية خلال نفس السنة قبل أمر سلطاني بجلب “الماكينة”، التي تزود المنارة بالاستصباح سنة ألف وثمانمائة واثنين وستين، ليتم الانتهاء منها بعد ثلاث سنوات، حيث طالبت فرنسا وبريطانيا وإسبانيا السلطان المغربي بضمان حياد المنارة، وهو ما تعهد به شريطة تحمل الدول المهتمة بتحمل مصاريف العناية بهذه المنشأة البحرية. ويسجل أنه رغم بداية اشتغالها سنة ألف وثمانمائة وأربعة وستين، فإن الاتفاق الدولي بشأنها لم يوقع سوى في ماي من السنة الموالية ولمدة عشر سنوات. مع أهمية الإشارة إلى ما شهدته هذه المنارة البحرية من تغييرات، خاصة بعد غرق سفينة بريطانية في دجنبر ألف وتسعمائة وأحد عشر، فضلا عما زاد من اهتمام دولي بهذا الجزء من المغرب.

جدير بالإشارة أن مرسى طنجة- الاسم الذي كان متداولاً في أواسط خمسينيات القرن التاسع عشر- كان لا يتوفر سوى على بقايا حاجز مائي قديم تركه الإنجليز منذ القرن السابع عشر، بحيث لما عاينه القنصل البريطاني ريد أشار إلى أنه بالإمكان إعادة بناء هذا الحاجز لتوفير مرفإ مناسب من شأنه مساعدة استقبال المسافرين بالمدينة، داعيا في تقريره المخزن المغربي إلى التفكير في بناء منارة عند رأس سبارطيل، وهو ما عملت الحكومة الفرنسية ومعها قوى بحرية أوربية أخرى على إقناع السلطان محمد بن عبد الرحمن للموافقة على تحقيقه، وإسناد إدارته إلى هيئة دبلوماسية بمقتضى اتفاقية دولية في ربيع سنة ألف وثمانمائة وخمسة وستين.

هذا فقط بعض من ذاكرة منارة “رأس سبارطيل” بطنجة، التي تُوجت مؤخرا بلقب “المنارة التراثية لسنة 2023” من قبل الجمعية الدولية للتشوير البحري، لتكون هذه المعلمة المغربية المنارة المغاربية والعربية والإفريقية الأولى والوحيدة التي بلغت هذه المرتبة والتتويج واللقب معا. حصل هذا إثر انعقاد مجلس هذه الجمعية في دورته السادسة والسبعين بالبرازيل في الفترة ما بين 12 و16 دجنبر الجاري، مع أهمية الإشارة إلى أن تتويج منارة طنجة هذه جاء إثر ملف تقني متكامل تقدم به المغرب منذ حوالي سنة لنيل جائزة “المنارة التراثية” ضمن دائرة تنافس أثثها 41 ملف ترشيح من 20 دولة عضوا في هذه الجمعية الدولية. ولعل تتويج منارة “رأس سبارطيل” بهذه الالتفاتة الدولية بقدر ما هو تثمين لمكانتها وقيمتها الرمزية ودعوة لإحاطتها بما ينبغي من عناية وصيانة ومحافظة، فضلا عن التعريف بها واستحضارها باعتبارها تراثا ثقافيا بحريا، بقدر ما يمكن أن تسهم به هذه من موقعها إثر هذا اللقب والصدى والالتفاتة الدولية، على مستوى ما ينبغي من حوار حضاري وتسويق تراب ونماء سياحي وبحث علمي الخ. وكانت منارة “كوردون” الفرنسية قد فازت باللقب سنة 2019، ومنارة “سانتا أنتونيو دي بارا” البرازيلية سنة 2020، ومنارة “كاب بايرون” الأسترالية سنة 2021، ومنارة “هوميكوت” الكورية سنة 2022، وها هي منارة “رأس سبارطيل” المغربية” بطنجة تتوج بهذا اللقب سنة 2023.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى