أخبار العالم

ناقد يداعب الكرة في “المونديال”.. فروسية العصر بواجهة تجارية وسياسية



قال الناقد المغربي محمد بنعزيز إن “الكرة هي فروسية العصر الحديث، ولها واجهة تجارية وسياسية”، موضّحا، في مقال له، أن “النسور والأسود والماكينات والطواحين والديكة والساموراي… هي صور تستخدمها الشعوب للفخر، وتستخدمها الشركات للتسويق فيجد المشاهد الفرد ذاته في السلعة”، مشيرا إلى أن الكرة “لا تلعب من أجل الكرة فقط”.

هذا نص المقال:

يستقبل مونديال قطر 2022 أسود الأطلس وأسود إنجلترا وأسود السينغال وأسود إيران وأسود الكاميرون… الأسد حيوان ثديي لاحم فقري مفترس. مشكوك أن يكون القارئ فكر في الصفات والنعوت الأربع السالفة. كذلك عندما أكتبُ “الديوك” مشكوك أن يفكر القارئ في حيوان بَيُوض أليف يصيح في كل فجر. بمجرد ذكر الأسود يستحضر القارئ صور لاعبين يجرون بشراسة في ملاعب الكرة القدم.

للأسد تاريخ عريق في الطبيعة والحكايات الشفوية والسياسة. يتفوق الأسد في معركة البقاء منذ زمن الإنسان الجامع الصياد، لذلك يحضر هذا الحيوان بكثافة في الرموز وفي كرة القدم، نادرة هي أيقونات الحيوانات التي دجنها الإنسان بعد الثورة الزراعية باستثناء الديك الفرنسي. لم ينخدع الديك المؤذن لما زاره الثعلب الواعظ.

وقد فضحت التغطية الإعلامية للمونديال من طرف بعض المنابر الغربية الكثير من الثعالب التي تدمن الوعظ. من حسن الحظ ألا منتخب يستعير لنفسه أيقونة ثعلب يحمل كل الصفات السلبية.

الأسد أشرف، وهو شخصية رئيسية في حكايات إيسوب وابن المقفع وجون دولافونتين. ويملك أسد الأطلس سمعة فنية منذ رسمه يوجين دولاكروا في 1855م.

إن الأسد هو صورة مستعارة لمستعار له هو فريق كرة قدم، لهذا يفكر القارئ الآن في أيقونات وصور تبني هويات. يقول السيميائي الإيطالي إمبرتو إيكو “إن العلامة المرئية تبني منوالا من العلاقات” (1)

تشير هذه العلامة المرئية (الأيقونات) إلى بلدان وشعوب وحضارات وتبني مشاعر تتأسس على التشابه بين منتخب بلد ما وهوية شعبه. يفترض أن يكون المنتخب الذي يسمى أسدا أو نسرا أو صقرا منتخبا شرسا. يفترض أن تتطابق صورة النسر والمنتخب. هكذا تترجم الأيقونة حرفيا ما تشير إليه، بل تشبهه وتطابقه، وهذا بخلاف الدال اللفظي (اللغة) المبني على علاقة اعتباطية بين الدال والمدلول.

تشارك نسور قرطاج وبولندا في المونديال، النسر طير لاحم صائد يبني عشه في الأعالي. هكذا يفترض أن يكون المنتخب الذي يسمى نسرا وصقرا. يفترض أن تتطابق صورة النسر والمنتخب في التحليق، وهكذا “تنقل الصورة إلى مخيلتنا شيئا أكثر من مجرد الانعكاس الدقيق للعالم الخارجي”(2).

يوجد رابط دلالي وتاريخي بين الأيقونة ومرجعها. تشير استعارات ماكينات ألمانيا وديناميت الدانمارك وطواحين هولندا… إلى أن هذه الآلات اختراع أوروبي، هذه قرينة (علامة) تضمن ألا يختلط المعنى على المستمع. يشير لقب أحفاد فاسكو دي غاما إلى أن البرتغاليين مستكشفون مهرة. يفخر الأحمر الإسباني والكندي والعنابي القطري والأخضر السعودي باللون المعبر عن الوطنية، عن الانتماء للبلد والاستعداد للتضحية من أجله.

توفر الأيقونة للمتلقي وسيطا فيزيائيا يشبه أصله. توجد مشابهة بين المستعار منه والمستعار له. تبني الاستعارة طبقات المعنى، تبني صورة الشعوب عن نفسها. ليتحقق المعنى تحيل الأيقونة على ما هو مفهوم وحسي وليس تجريدي. “إن الدور الذي تقوم به الأسس التجريبية هام في فهم اشتغال الاستعارات”(3) يشار إلى قرينة أو تجربة بدقة لتستثير فهم المتلقي. توجد تشابهات بين لعب البرازيليين ورقصهم.

تحيل أيقونات تنين ويلز وكنغر أستراليا وأسود الأطلس على ثدييات ولودة، أيقونات مستمدة من تراث حكائي عريق شكل الخيال الشعبي. وبما أن الكرة هي اللعبة الأكثر شعبية في العصر الحديث فهي تستثمر التراث الشعبي في اختيار الأيقونات. للإشارة تسمح الأيقونة بالإدراك البسيط والفوري، إدراك فيه صفر غموض.

تبني هذه الأيقونات الهوية البصرية للمنتخبات. تتماهى الشعوب مع هذه الأيقونات، يتجلى هذا في لعب راقصي التانغو والسامبا… منتخبان يفرحان بالكرة ويقدمان أداء هجوميا لا يركنان للدفاع أبدا، يهاجمان دوما ولا ينكمشان في الدفاع مثل المنتخب الإيطالي. في النسق البرازيلي حتى المدافع روبيرطو كارلوس كان يسجل أكثر من مهاجمي المنتخبات الأخرى. في مونديال قطر شوهد البرازيلي ريتشارليسون يرقص طائرا ويسجل هدفا أسطوريا ضد نسور صربيا.

يتكلم اللاعبون لغة الأقدام في المستطيل الأخضر وتتكلم الشاشات لغة الصور. تتوجه الأخبار إلى التعاليق إلى أذن المتلقي بينما تتوجه الصور إلى عينيه…توجد مسافة ضوئية بين مشاهدة مقابلة كرة قدم على المباشر والاستماع لوصفها في نقل إذاعي. مهما علا صوت المعلق فإن الأيقونة الصماء تخاطب من يشاهدها ببلاغة هائلة “لأن الأنظمة السيميائية أكثر كثافة وأقل تشفيرا من اللغة”. (4) إن الصوة بألف كلمة.

تقدم الصور عالما مشهديا. تستمتع العينُ بالمشاهد المعطاة من نظرة واحدة، لذلك تخطف الصور الأنظار. الكلمات لا تخطف. حسب ليوناردو دافينشي “فالعين فور فتحها ترى نجوم نصف الكرة الأرضية برمتها”، الاعمال الأدبية ص 8.

لقد اشتهر مشهد العشاء الأخير في إنجيل يوحنا لأن دافينشي رسمه؛ كان في صورة حدث وأشياء وضوء ومسافة ومنظور. يصعب أن تحل الأذن محل العين في تقديمه كل هذا. في المونديال العين تقودنا. يقول ألفريد هتشكوك: “إن كل ما يقال ولا يُعرض يعتبر مفقودا بالنسبة للمتفرج”، من هذا المنظور السينمائي أقارب الأيقونة في كرة القدم.

تكمن قوة السينما في كونها لغة بصرية أساسا، وقد سبق لأندري تاركوفسكي أن استعار أيقونات الراهب أندري روبليف (1360- 1427م) في فيلم “أندري روبليف” 1966. نادرا ما ينتبه المحللون إلى أن هذه المعرفة بالأيقونة هي سبب ومصدر عظمة تاركوفسكي كمخرج.

نسور وأسود وماكينات وطواحين وديكة وساموراي… هذه صورة شعوب عن نفسها. صور تستخدمها الشعوب للفخر وتستخدمها الشركات للتسويق فيجد المشاهد الفرد ذاته في السلعة. لا تلعب “الكرة من أجل الكرة” فقط، كما لم يصمد شعار “الفن من أجل الفن”.

أن الكرة هي فروسية العصر الحديث. للكرة واجهة تجارية وسياسية، فمن يقرأ الأخبار التي تنشرها جريدة لوموند الفرنسية عن مونديال قطر يفاجأ بكمية الحقد وعمى الألوان. وقد فوجئتُ بقناة أورو سبور تكتبُ بعد انتصار أسود الأطلس على شياطين بلجيكا أن المغاربة “أيضا يحلمون”.

يفترض الأوروبي في القرن 21 أن الحُلم حِكْر عليه.

سياسيا تذكرّ أيقونات فرق صليبيي سويسرا وساموراي اليابان ومحاربي كوريا بقرائن تاريخية. لقد سيطر الساموراي المحارب على المجتمع الياباني، والأمر نفسه بالنسبة للفيودالي الصليبي المسلح في المجتمعات الأوروبية.

حسب أنطونيا فيليكس في كتابها “كوندي: قصة نجاح كوندوليزا رايس” فقد كانت كوندوليزا رايس تقارن في دروسها بين كرة القدم والحرب، تقول: “كرة القدم هي مثل الحرب، وهي تتعلق بالاستيلاء على الأرض”، (5) هكذا تعتبر هذا التشابه مدخلا لفهم العلوم السياسية، لفهم النخب السياسية، والتحالفات ومؤسسات العنف… لكنها كانت أيضا تشيد بالفوائد السياسية لكرة القدم، وهي تسلية قومية تشد الناس إلى بعضهم البعض بغض النظر عن الفواصل الاجتماعية والفواصل العرقية… وهذا درس عملي في التسامح بين الشعوب العاشقة للكرة، للعبة الشعبية الأولى في العالم، التي تجري في قطر، وتشهد تنافسا غير مسبوق جعل حظوظ كل الفرق متساوية. وهذا يبهج مآت ملايين المتفرجين.

هوامش

مجموعة مو “بحث في العلامة المرئية من أجل بلاغة الصورة” ترجمة سمر محمد سعد المنظمة العربية للترجمة بيروت 2012 ص 163.

تريفور وايتوك، الاستعارة في لغة السينما، ترجمة إيمان عبد العزيز، مراجعة سمير فريد، المشروع القومي للترجمة، ط1، القاهدرة 2005، ص 26.

جورج لايكوف ومارك جونسن “الاستعارات التي نحيا بها” ترجمة عبد المجيد جحفة، دار طوبقال، ط2، 2009، ص 40.

مجموعة مو “بحث في العلامة المرئية. م.م. ص80.

أنطونيا فيليكس في كتابها “كوندي: قصة نجاح كوندوليزا رايس” الدار العربية للعلوم، ناشرون، 2007، ص123.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى